ليست مجرد امرأة، شَرَحَ لها أنَّ حكايتهما مختلفة، وأن مشاعره تجاهها لحن كوني تمنى لو يعزفه منذ زمن طويل. قال لها لحظةَ البوح: " أنتِ فكرة لا ينال منها الزمان، ونظرية تستحق أن تـُحَطَّمَ من أجلها الأسوار. منذ اهتديت إليكِ وأنا محاط بجنائن أثيرية، كلماتي فيكِ فيض من بعض سرك، وحروفي تتلهف شوقا إلى حضورك البهي". أَحَبَّها همسا وجهرا وصمتا، لكنها لم تشأ أن تفهم الفكرة وأرادت أن تطمس معالم النظرية، وتمسكت بكينونتها الأرضية، إذ رأته مجرد رجل، وتجربة تحتمل الربح والخسارة.
قالت له كسيف باتر: "لقد تراجعت عن عهودي التي قطعتها لك. لن أنتظر اللحظة التي تقول لي فيها: اذهبي فقد انتهى دوركِ في حياتي".
"حياتي!! يا لسخافة هذه الكلمة حين نرى الحياة تعدادا أصما للدقائق والثواني. حياتي هي أنتِ، هذا قرار لن أتراجع عنه".
أصرت على كلامها، فدارت به الأرض: "كيف تتراجع ولما نزل في البداية؟! ولنفترض أن كلامها منطقي، هذا لا يغير من الواقع شيئا لأن كلاما كهذا ينتمي إلى غير عالمي". ماذا يصنع بالمنطق من رمى الدنيا وراء ظهره؟ في مثل حالته يغدو الحب عملية انتحارية، نخوضها متشوقين إلى خلاص عاجل، وآخر ما نفكر فيه هو ثمنها وتبعاتها.
لقد بدت طيعة متماسكة في البداية، ثم غلبها عقلها فتلاشت من بين يديه. أرهقتها المسافات الشاسعة، فترددت حائرة بين عالمين، داخل يتقد عشقا، وخارج ذي أسوار كثيفة. وفي النهاية كان حظه منها الكثافة. فما عساه يفعل؟؟!! لقد أدخلته في منظومة حياتها، كان عليها أن تبقيه بعيدا عن تفاصيلها اليومية، أن تحب فيه أنه طاريء وغير مفهوم. أن تجعل له قيمة يستمدها من ذاته، لا من مقارنته بالأشياء التي تحيطها.
هو رجل جاوز حد الطيش وكاد أن يكون كواحد من الناس لولا أن فكرة بعيدة الغور انتشلته من قيوده. قالت له الفكرة: " أنت ذو روح وفي قلبك بهجة، فاخلع نعليك وامضِ في مشوار الحكمة. إذ لا نجاة إلا في الحكمة، ولا متنفس إلا حين تغدو الأرض مجرد ذكرى، ويصبح العالم كابوسا تواصل الهروب منه".
فلما شد الرحال وجدها أمامه. ظنها سفينة نجاته. وتوهم أن المرأة الحبيبة خلاص من العالم ودرب من دروب الحكمة. فلما فـُجِعَ بها عرف أنْ أحلامه ضرب من المستحيل، وأن صخور الأرض أعتى من أن نحطمها بمعاول الأحلام.
قال في لحظة غيظ: "المرأة خلقت لتكون أمّا فقط؛ أي لتكون الآلة التي تطيل من عمر المحنة التي وقع بها الجنس البشري بأسره".
عاد إلى ذكرياته الأولى: "انظر إليها، إنها امرأة جميلة، ذكية، مرحة، فيها كثير من روح الملائكة وقليل من طين الأرض. وهي تحبك. لقد قالتها بلسانها، وليست هذه المرأة من النوع الذي يكذب.
ما أروعها! كل ما فيها مُلْكُ الأبد، حزنها وعيناها وضحكها وقفزها خلال حديثها من موضوع إلى آخر. هي حلم كل عاشق ولهان. فاسمُ بها وبنفسك إلى ما يفوق الواقع، الواقع الذي لن يكون أكثر من صِلات مؤقتة".
أحبها كطفل لأنها معادلة ذات رموز استطاع أن يفككها ويقرأ كل تفاصيلها. شعر أنها جزء منه وأنه جزء منها، روحان امتزجا فنزلا من المحل الأرفع. فلما افترقا كان لا بد من اللقاء ولو بعد حين... ولو حتى في وقت العمر الضائع.
هذا أحد الأسرار الكبيرة، فالبشر معادلات، نساؤهم ورجالهم. والمعادلات أفكار لن تصادفوها تسير على قدمين أبدا. ولا حقيقة إلا تلك التي تسري في الفكر وتنتسب إلى المشيئة. تذكر حكيما سمى المشيئة إرادة، أعطاها كل شيء إلا وعيها بنفسها، فسقط من درب الحكمة. أما هو فقد رأى بزوغ شمسها في حياته تدبيرا بالغ الذكاء. ورأى المشيئة قد خصته بهدية جعلت تجربته البشرية متفردة عن غيرها. فالممكن أصبح ذا معنى مختلف، آفاقه توسعت، وروحه استعارت من عالم الخلود ثوبا يقيها برد الفناء وقسوته. لقد أفلت من قبضة الممكن، وسما إلى أفق جديد. لا شيء يحدث عبثا، وهو أهم من أن تعبث به الدنيا. وسنوات عمره الماضية تُوِّجَتْ بغاية يهون العمر كله من أجلها. إنَّ معناه يقترب من الكمال. فلتكن حبه الأبدي. بهذا المنطق رمى كل أوراقه بين يديها دفعة واحدة.
"أحبك بكل كياني، أنا محاصر فيكِ" قال لها وهو مطمئن إلى حسن تقديره.
أما هي فلم ترد الاستمرار. الكائن الفيزيقي بلغ تاريخ انتهائه. لم يعد سوى أرجوحة ورذاذ مطر. سيغادر عما قريب. آمنت بنظريتها هذه فخنقت طفولته.
صاح في سمعها كغريق يتعلق بقشة: "حين نحب ونحن خارج نطاق المحبين نكون قد تورطنا في إنسانيتنا إلى ابعد حد. لن تغادري وجداني أبدا، فأنت لحظة يرتكز عليها هذا الشيء الذي تسمينه حياتي".
أحاطته بذراعي الشك كامرأة على وشك الرحيل، أغلقت جفنيه وطلبت منه أن يستمر في أحلامه بعيدا عنها، فهي لا تستطيع النظر في عينين حالمتين. تلك بضاعة لا تُشترى، يمتلكها رجل على الهامش. ما تصنع الأحلام لامرأة ضعيفة غير أن تجرها إلى الانهيار؟؟
"أنتَ تبحث عن نزوة، وسوف يصيبكَ الملل قريبا". يا لها من رصاصة لا تعرف الرحمة أبدا.
أخيرا بلغ منه اليأس مداه فنظر إلى السماء، وأطلق حكمه القاسي:
"المرأة كائن محدود الطموح، هذا هو سر معادلته، لقد فهمتها جيدا....."
Samhm111@hotmail.com