ذكريات رمضان "لمحمد داودية" تأملات في صناعة الوطن
أ.د. خليل الرفوع
03-05-2020 10:46 AM
محمد داودية كاتب شهم ورجل حلوٌ ومرٌ ، حلو لمن أراد حلاوته، ومر إذا نفس العزوف استمرت، طفيلي العشق، أردني المُحيّا واللغة والوفاء ، وفيٌّ لكل الأمكنة التي راودت طفولته وشبابه وحكمته، ينثر كلماته على عشاق البيان فتأتي مرسلةً كالغيث ندية كدعاء أمه، أدخلته الحياة في أزقتها وشقوقها ومعارجها متنقلا بين القرى الأردنية في زمن التشكل الفكري الأولي، ثم بين منصات السياسة كاتبا ونائبا عن الطفيلة ووزيرا وسفيرا في المغرب العربي وأقصى الشرق الأسيوي، ورئيسا لمجلس إدارة الدستور، هذه الصحيفة التي عجمته كاتبا ومسؤولا فكان من أنبل كتابها أدبا ونقدا وحضورا فكريا ، فكان أحد أعمدة الصحافة، كما هي الدستور العمود الأوسط في بيت الصحافة الأردنية.
ينشر محمد داودية هذه الأيام، ذكرياته الرمضانية حينما كان في المفرق مقبلا على الحياة بلفحها ونفحها وحلوها ومرها ليصوّر زمنا أردنيًّا خالصًا من التعب والرجولة والطيبة، إنها ذكريات داودية ذاتية كتبت بنفَس أردني محض وبلغة أدبية تفوح برائحة التراث والعرق والدور العتيقة والطفولة والصدق وبصور شعرية تتجلى فكرا يمكن أن تؤرخ للأمكنة وتفاصيل الحياة وتجاعيد الزمن ، ترتسم الكلمات والشخصيات صورا أمام القارئ تنفرج أحيانا وتتأزم أحيانا أخرى لكن مشاهدتها تأملا لا يتوقف وكأن القارئ يقول هل من مزيد ، يلخص لنا الكاتبُ الأردنَ برجاله ونسائه وأطفاله وأمكنته وأحداثه في مطلع الستينات في المفرق التي جمعت أردنيين من مختلف البيئات، وغيرهم من العرب؛ فكانت مجمَّعا بشريا يمور حركة حيث الجيش والشهداء والعمل والتعب ورذاذ الصحراء والصحب والصَّخب، وكان الفتى محمد داودية الطالب الذي يواظب على قراءة القرآن والمجلات والصلاة في المسجد والعمل خارج البيت في الكسارات، وجمع الأخشاب ( الطبش) ووزّه تحت الصاج حينما تخبز أمه الشراك ، فلم يعرف الفتى الكسل بل كانت كل لحظة في حياته عملا متواصلا استجابةً لقسوة البيئة بفردوسها وجحيمها وطاقة الصبا ببراءتها ولظاها.
إن ما يميز هذه الدراما الواقعية الطبيعية هو ذلك الأسلوب لغةً أدبيةً بألفاظها الأردنية التراثية وتصويرًا حركيا للشخوص باطنيا وظاهريا والقدرة الفائقة على التعبير عن مكنونات النفس وامتزاج التراجيديا بالكوميديا وتذكر أحداث سابقة أو لاحقة للحدث أو للشخصية وربط ذلك كله ضمن التسلسل الزمني بحيث لا يمل القارئ الذي يقرأ ويشاهد ويتأمل ويدهش للذاكرة التي لا تزال تحتفظ بعشرات الأسماء والمواقف على الرغم من إصرار الكاتب على ذكر أحد أصدقائه ممدا له بها.
إن قيمة ذكريات محمد داودية هي لغتها الروائية السردية الحكائية الشائقة، وتفرده بنقل أحداث زمن كانت الأردن على عتبة التشكل العلمي والعسكري والحزبي والثقافي وما محمد داودية إلا الرمز الأردني الذي صنع شخصيته ووجوده ودولته بأظافره التي نحتت أسطورة بقائه لتستعصي على الخراب والفناء، وإنه محمد داودية الذي رسم تشكيلته الفنية اليومية وهو يغرف من ذاكرة أدبية حية متدفقة بلا زخرفة أو غموض دون تعسف في التصوير أو بلبلة في السرد، لذا جاءت المذكرات تسجيلا أدبيا دقيقا لذات صاحبه والأحداث التي شارك فيها أو شاهدها، وهي تجربة تستحق التأمل في زمن صعب ووطن امتشق غُرة الحياة وزرقة السماء وسمرة الرجال ليكونَ فكان .
أستاذ الأدب العربي بجامعة مؤتة