الحديث الذي يجري من وقت لآخر عن الاعتماد على الذات لا يتجاوز اماني وشعارات يجري استهلاكها في المناسبات فخلال العقود والسنوات الاخيرة تراجع انتاج البلاد من القمح والحبوب وانخفض نصيب الفرد من المياه وتنامى اعداد الموردين للحوم بحيث اصبحنا نميز مذاق اللحوم المستوردة وازدادت اعداد من يفضلون اللحوم الرومانية على النيوزلندية بعدما خبروا البلغارية والسودانية والتركية وغيرها. في حالات كثيرة تشعر وكأن انساننا يعيش في بيت مستأجر تجلب كل احتياجاته من الخارج بما في ذلك العمالة والطاقة والمياه. فما الذي دهى هذه البلاد التي كانت حتى مطلع السبعينيات تنتج قمحها وخبزها وترتوي من ينابيعها وآبارها.؟
الايام القليلة الماضية كشفت عن جبروت قوى التجارة والاستيراد فقد اطل وزير الصناعة ليقول لنا ان المخزون الاستراتيجي من المواد الغذائية الرئيسة متوفر وللتأكيد على ذلك قام عدد من اصحاب القرار بزيارات متعددة لصوامع القمح ومستودعات تخزين السلع وجرى الحديث عن الشحنات القادمة التي ستأتي تباعا لسد حاجاتنا من القمح والسكر والارز والشعير وبقية السلع التي يعتمد عليها المواطن. للبعض بدا الامر مريحا لكن المحزن ان المخزون الاستراتيجي لا علاقة له بما زرعنا بل هو حصيلة جهود الموردين الذين يوفرون لنا ما يقارب المليون طن من القمح سنويا .
بالرغم من وجود مساحات واسعة من الاراضي القابلة للزراعة فما يزال الاردن يستورد اكثر من 90 % مما يحتاج من القمح والشعير والبقوليات ويتسابق التجار والسماسرة فيه على استيراد الكثير من المحاصيل ويدخلون في مضاربات مخزية لتشويه منتجات بعض البلدان لحساب زيادة الاقبال على منتجات بلدان اخرى . في الايام القليلة الماضية اقدم بعضهم على نشر صور لفواكه فاسدة قال ان سببها المياه التي تسقى فيها في بلد المنشأ وقد رد المستورد لهذه السلع بأن الغاية من ذلك وقف الاقبال على هذا الصنف وفتح المجال للاصناف التي يستوردها البعض من بلد مجاور آخر.
في محاولات الاردن الاولى لتطوير الزراعة الصحراوية المعتمدة على الري توجه المتعاقدون الى انتاج سلع زراعية غير استراتيجية واستهلكوا الكثير من مياه الاردن وعقدوا صفقة مصالحة مع وزارة المياه دون ان يجيب احد على سؤال اسباب الخلاف ولماذا لم يرتبط الانتاج بحاجات البلاد من السلع الغذائية الاستراتيجية . الخطاب الحكومي حول المياه يتحدث عن شح في مصادرها وازمات مزمنة في توفير المطلوب ومطالبات دائمة للمواطن بترشيد الاستخدام والقبول بالحصص التي يجري تخصيصها للمستهلكين ضمن معادلات لا تفي بالاحتياجات الاساسية للمستهلكين.
في مقابلة لوزير المياه افاد بأن الاردن استقبل هذا العام كميات تصل الى ما يزيد على 150 % من المعدل السنوي للهطول او ما يزيد على 12 مليارمتر مكعب ومع ذلك فان الدولة وسلطاتها تمنع المواطنين من حفر الآبار او استخدام ما هو متوفر منها . المؤسف حقا ان بعض السدود التي امتلات هذا العام ستحتفظ بمعظم مياهها دون اي استخدام حقيقي فعال ومفيد وستكون جاهزة للفيضان عند اول هطول مطري كما حصل لسد الوالة في السنوات الثلاث الاخيرة.
ما يبهرك ان الوزراء والمسؤولين يعون تفصيلات اوضاع قطاعاتهم جيدا لكنهم نادرا ما يقدمون حلولا او خططا لأوجه الاستخدام المجدي والفعال والمرتبط برؤية وطنية ترمي الى تحقيق الاستقلالية والاعتماد على الذات الذي يجري الحديث عنه في كل مناسبة.
حتى اليو لا توجد خطة لزراعة القمح او البرسيم ولا عن تصورات لتحقيق الاكتفاء الذاتي من اللحوم والالبان ولم يتحدث احد عن الاسباب الكامنة وراء امتلاء سد كفرنجة دون وجود خطة واضحة لاستخدام مياهه. في الطفيلة التي تشكل غالبية اراضيها جبالا ووديانا ومناطق وعرة لا يوجد الا سد واحد خصصت مياهه لمنفعة شركة البوتاس العربية الواقعة على بعد عشرات الكيلومترات الى الغرب من المحافظة.
الناس في الطفيلة لا يفهمون المنطق ولا المبررات من وجود السد على اراضي محافظتهم وتخصيص مياهه لخدمة مشروع خاص يقع خارج حدود المحافظة . بالرغم من وجود البطالة ونقص متزايد في المصادر وزيادة في حاجات الناس للشرب وري المزروعات الا ان المحافظة تخلو من المشروعات الهادفة الى تطوير الموارد المائية وتوفيرها بكميات معقولة للمواطنين. خلال الاعوام القليلة الماضية سمعت من كل الوزراء الذين تعاقبوا على وزارة المياه عن انهم سيحتفلون قريبا بافتتاح سد جديد في الطفيلة وسيباشرون في تشييد المزيد من السدود في مجاري الاودية التي يزيد عددها على سبعة مواقع. حتى اليوم لم يتحقق من هذه الوعود وعد واحد فما ان تكتمل المخططات حتى يغيب التمويل وما ان يحضر التمويل حتى يحرد المقاول وهكذا.
في ضوء هذا الواقع فان الحديث المتكرر عن التنمية والمشروعات العملاقة وحلول البطالة والاستثمار مجرد وعود وخطابات ما لم ير الناس افعالا ترتبط بالوعود ويخرج المسؤول من عقلية ابراء الذمة ليتحلى بروح المسؤولية والعمل المنتج المفضي الى تحقيق الاهداف المعلنة .فالبرامج التنموية الحقيقية هي التي تبنى على تطوير واستثمار الموارد المحلية وتساعد الناس على اختيار اعمال ومهن مرتبطة ببيئتهم وتراثهم وتنعكس على انتاجيتهم ودخولهم ونوعية حياتهم.
(الغد)