في مقالة بعنوان "أرباح وأرواح"، ذكر الأستاذ محمد الصبيحي في معرض تحذيره من الاستعجال في تخفيف القيود على الإجراءات الوقائية، في مواجهة جائحة كورونا، وأن ذلك قد ربما أدى الى انهيار كل الجهود والمكاسب التي تحققت. فقد قال: "انا احمل شهادة في الحقوق ومع ذلك أصلح وزيرا للصحة، لم لا فقد سبق أن رئيس وزراء أسبق يحمل شهادة الطب البيطري المهم لو كنت وزيرا للصحة فلن أوافق على ما يجري الآن وسأقرر بقاء الحظر وإرجاء عودة المغتربين إلى ما بعد عطلة العيد."
لا غرابة في ان يتولى شخص وزارة ما هو ليس متخصص فيها. فيمكن ان يكون وزير الصحة ليس طبيبا ووزير التربية طبيبا، وهكذا. ولكن لا نتفق مع الأستاذ محمد في القياس على تولي شخص رئاسة الوزراء وهو يحمل شهادة الطب البيطري.
يذكر أستاذ دكتور (طبيب) كان وزيرا لعدة مرات في الحكومة الأردنية ، وخلال لقاء له في اجتماع دولي مع وزير الصحة الأمريكي، ان الوزير كان محاميا، وكان معه خبراء (عدد كبير 30 كما اذكر)، ولا اعرف كم كان مع وزيرنا.
ما يمكن قوله ان موقع الرجل الأول في أي مؤسسة هو موقع قيادي توجيهي وليس موقعا فنيا. فليس المطلوب من الوزير ان يقوم بعمل وزارته ان كانت وزارة صناعة او زراعة وغيرها. ولكن مطلوب منه قيادة وزارته والسير بها قدما الى الامام، وتحسين أدائها وتطويره. الذي يجب ان يقوم به الرجل الأول هو ان يكون صاحب رؤية لوزارته وتكون لديه رؤية استراتيجية وقدرة على التواصل وتمثيل وزراته او مؤسسته بكفاءة واقتدار.
الوضع أحيانا معكوس في بلادنا، فتجد الرجل الأول يفتخر انه يعرف كل صغيرة وكبيرة في مؤسسته.... ويعرف من حضر ومن غاب.. وربما كان هو من يراقب الحضور والغياب. ويقوم أحيانا بمهام تكون ليست حتى من مهام الرجل الثاني بل من مهام رؤساء الأقسام والشعب. وهذا الامر ينطبق على وزراء وعلى من في حكمهم من رؤساء المؤسسات بما فيها الجامعات.الذى يقال أن ما يقوم به هؤلاء هو عمل المدراء لا القادة. وهذا قد يفسر التعثر الذي تمر به العديد من المؤسسات وما يحدث فيها من إجراءات او يتخذ من قرارات من القائمين عليها، لا ترى فيها إلا "عوجا وأمتا".
إن الشخص الذي يكون متخصصا في امر ما، ويعمل في مؤسسة ما، وقد ترقى الى ان وصل إلى اعلى موقع فيها، هذا الشخص قد يكون مناسبا لتسيير الوضع القائم واستمراره. ولكن من غير المتوقع ان يحدث تطويرا أوتجديدا كبيرا في مؤسسته. ولهذا يقال ان البيروقراطية لا تتقدم او تنصلح من تلقاء نفسها. لذلك يلزم قوة او جهة أخرى تدخل هذا النطاق البيروقراطي المستعصي على التغيير والتجديد. إن قائدا بالمعنى المعروف للقيادة ويأتي من خارج المؤسسة هو الاقدر على احداث التغيير والتطوير، وهو الاقدر على رؤية الصورة بوضوح ودون غبش الخبرة والتعود، فالتغيير صعب على النفس وعلى المؤسسة.
وفي مقال سابق عن الاستعصاء البيروقراطي، أشرنا الى قول ونستون تشرشل الذي يمكن ترجمته بما يلي "نحن نبني البنيان والبنيان يقيدنا". هذا القول ينطبق على العمارة كما ينطبق على الإدارة. وما البيروقراطية إلا كيان معماري من النظم والإجراءات التي تصبح إن فقدت غايتها وأهدافها وإنسانيتها إلا قيودا على فكر الإنسان وحركة وإبداعه وعلى عمل المؤسسات. وإذا ما استمر في ادارتها كهنتها الاداريون فسوف تترسخ هذه البيروقراطية وتستعصي على التطوير والتحسين.
ويأتي عامل طبيعة الرجل الأول في المؤسسة، فمع الاختيار المبني على الواسطة او المحاصصة، او الزمالة، او المصاهرة، او المشاركة الاقتصادية، والذي من نتائجه المنظورة والمستغربة ان يتولى المواقع الأولى أناس متواضعي القدرات والمؤهلات والتجارب، والرؤى. فهؤلاء سوف يجعلون المؤسسات التي يديرونها تسير وفقا لتصوراتهم وامكانياتهم، فقد يكون همهم قضاء فترة التعيين بأقل الخسائر وباكتساب الرضي وأكثر المكاسب، فيهبطون بها من عل إن كانت في موقع افضل.
وفي الختام، اتفق مع الأستاذ محمد في أن الاستعجال في تخفيف إجراءات مواجهة جائحة كورونا، قد يكون له نتائج عكسية كبيرة جدا، وهذا ما أشار اليه وزير الصحة من خشية ان تكون الموجة الثانية اشد واقسى. مع الفارق الكبير، ولكن الشيء بالشيء يذكر. لا تستعجلوا النصر، كما استعجل "الرماة على الجبل في معركة أحد" فخالفوا التعليمات" وكانت النتيجة كما تعلمون.