كثير من الناس باتوا يطالبون بإقامة دولة مدنية، وتحويل نظامها إلى نظام علماني..
بيد أن هذين المصطلحين مختلفان! والمطالبة بهما على اعتبار أنهما مرادفين لمعنى واحد يدل على عدم فهم وجه الاختلاف بين العلمانية والمدنية!
لن أدخل في شرح مصطلح المدنية، لكنني سأتكلم عن العلمانية في جانبها المادي ومدى تناسبها مع الواقع اللبناني على المستويين السياسي والاجتماعي..
تاريخ العلمانية
بعد اتفاقية وستفاليا في سنة ١٦٤٨، وبعد سنوات من القتل و الدمار في القارة الأوروبية، نتيجة الصراع الطائفي، على آثر ثورة مارتن لوثر، حيث انتفضت البروتستانتية على الكاثوليكية، تحول الصراع الطائفي إلى صراع قومي، وقد عززت تلك الاتفاقية ذلك الصراع، وشكلت مهد العلمانية، وكان مبدؤها ينادي بفصل الدين عن الدولة، أي بما يعرف اليوم بمفهوم فصل الدين عن السياسية..
كان ذلك التعريف أحد مطالب البروتستانت الإصلاحية، لكن العلمانية من جهة أخرى هي فلسفة تبدأ بفصل الدين، ولا تنتهي بفصل المادة عن الروح، ولا بتحويل أي مؤسسة أو شركة أو أي كائن حي إلى آلة مجردة من الروح والإحساس، لقد كان العقل هو الإله الأعلى، واعتمد مبدأ عدم أنسنة الأشياء، و لقد اعتبرت الأنسنة أحد المناهج في علم الإدارة من قبل تيار البسيكو- سوسيولوجي، والمدرسة السلوكية التي تهتم بالسيكولوجيا، والتي تخالف منطق ماكس ويبر القائم على المثالية الرسمية والمادية.
هل العلمانية هي الحل في لبنان؟
كتب الشيخ مهدي شمس الدين رحمه الله كتاب بعنوان: (العلمانية)، تحدث فيه عن العلمانية بشكل مفصل، وذكر أنواعها، وأعطى تركيا كمثال للعلمانية المتطرفة بعد سقوط الدولة العثمانية، ويستند الكثير من الناس على هذا المثال، وعلى إمكانية إسقاطها الكلي على واقعنا، لكن ذلك خطأ كبير، بسبب اختلاف التركيبة الاجتماعية و الدينية لتركيا عن لبنان، كما أن تركيا قبل وصول الخط الأسلامي الذي بدأ بأربكان وصولاً إلى أردوغان، كانت دولة فقيرة ومتخلفة، و كانت تسمى مزبلة أوروبا! ومع صعود التوجه الإسلامي في البلاد، تغيرت بشكل كبير على المستويات كافة، بينما على الصعيد الأوروبي و خصوصاً في فرنسا بعد الثورة هناك، استطاعت العلمنة أن تنجح نجاحاً باهراً، وهنا نطرح السؤال: لماذا نجحت في فرنسا، وفشلت في تركيا؟
بكل بساطة، لأن الأداء في الإدارة هو من يحدد مسار النجاح والفشل.
في لبنان، لا تكمن مشكلتنا في التنوع الطائفي والديني، لأنها تعتبر غنى فكرياً و ثقافياً، ولأن الاختلاف يولد حضارة وثقافة فكرية متنوعة، ولنا في أميركا، التي يعيش فيها المسلمون و المسيحيون والهندوس، وأديان كثيرة أخرى، لم تكن مشكلة أبداً، حيث تشكل الطائفية السياسية المشكلة الكبرى، مشكلة تعزز مبدأ الانقسام الطائفي والمناطقي، الذي لا يهتم بمؤهلات المواطن في توليه أي منصب، إنما تنظر لانتمائه السياسي والطائفي فحسب، ففي نظام المواطنة يتساوى المسلم والمسيحي في الحقوق والواجبات والوظائف، وبالنظر إلى مؤهلاته، وإننا عندما نلغي الطائفية السياسية، يتحرر لبنان من فساده الفكري، الذي يليه تحرره من فساده الكلي.