قراءة في أحكام الوردي على العلاقة بين عمر بن الخطاب والشعر
م. أشرف غسان مقطش
28-04-2020 11:23 AM
نستهل مقالنا بذكر النصوص التي أطلق فيها د. علي الوردي أحكامه على العلاقة بين عمر بن الخطاب والشعر، والواردة في كتابه (أسطورة الأدب الرفيع). (1)
إذ يقول الوردي في ص (117): "والمعروف عن عمر بن الخطاب أنه كان يقسو على الشعراء ويمنعهم من التمادي في نظم الشعر على ديدنهم القديم".
ويستشهد الوردي على صحة حكمه هذا بحكاية عمر والشاعر حسان بن ثابت التي رواها عقب إطلاق الحكم، إذ يقول: "قيل إنه [أي عمر] مر بالمسجد ذات مرة فوجد فيه حسانا في نفر من المسلمين وهو ينشدهم شعرا. فأخذ عمر بإذن حسان وقال له يعنفه: "أرغاء كرغاء البعير؟". فقال له حسان: "إليك عني يا عمر، فوالله لقد كنت أنشد في هذا المكان من هو خير منك فيرضى". فتركه عمر ومضى، كأنه لم يحب أن يجادل حسانا في الموضوع. ولو شاء عمر لقال له: "ويحك يا حسان، لقد تبدل الزمان!"".
ثم ينقل الوردي عن طه حسين رأيه في هذه الرواية؛ فيقول في الصفحة نفسها من الكتاب المتقدم ذكره: "يقول الدكتور طه حسين في هذه الحادثة: إن حسانا كان ينشد الشعر في ذم قريش كما كان دأبه في أيام الرسول. ولما كان عمر قرشيا فقد كرهت عصبيته القبلية أن ينشد حسان في ذمها شعرا".
ويعقب الوردي على رأي عميد الأدب في الموضع ذاته فيقول: "والذي أراه أن طه حسين فاته الصواب في هذا القول. فالمعروف عن عمر أنه كان يكره قريشا وتكرهه قريش. وقد أشار طه حسين نفسه إلى هذه الكراهية المتبادلة بين قريش وعمر في كتابه الأخير "الفتنة الكبرى"".
ويستطرد الوردي قائلا في المكان عينه: "أرجح الظن أن عمر كان يكره الشعر لا ذم قريش".
لعلني لا أغالي إذا ما قلت بأن الوردي قد أساء فهم العلاقة بين ثاني الخلفاء الراشدين وديوان العرب.
فالوردي نفسه ينقل عن عمر في الكتاب السالف ذكره وفي الصفحة المشار إليها ذاتها أنه قال مرة: "كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه، فجاء الإسلام فتشاغلت عنه العرب بالجهاد وغزو فارس والروم، ولهت عن الشعر وروايته".
اني استشف من قول عمر هذا حسرته على الحال التي وصل إليها الشعر في صدر الإسلام؛ فهل يصدر مثل هذا الكلام عن الشعر ممن يكرهه؟
وفي ص(99) من الكتاب إياه، يتطرق الوردي إلى قصة يوضح من خلالها لقرائه كيف أن علماء الإجتماع يستطيعون استخلاص القيم الإجتماعية من أبيات الشعر العربي بغض النظر عن مدى مصداقية الأبيات المنتقاة لهذا الغرض، إذ يقول: "يحكى أن رجلا جاء إلى الخليفة عمر يشكو إليه من شاعر، وذكر الأبيات التي نظمها الشاعر في ذمه وذم قبيلته، وهذه بعضها:
قبيلته لا يخفرون بذمة... ولا يظلمون الناس حبة خردل
لا يردون الماء إلا عشية... إذا صدر الوراد عن كل منهل
فقال عمر: "ليت آل الخطاب كذلك... فما أرى بهذا بأسا".
وسؤالي الدائر في أفلاك ذهني: أما كان بإمكان عمر -لو كان يكره الشعر- أن يستدعي صاحب هذه الأبيات وأن يمسك إحدى أذنيه ويشدها قائلا له: "أرغاء كرغاء البعير"؟
ولكي تتضح الصورة لنا أكثر عن طبيعة العلاقة مدار بحث هذا المقال، نقرأ في الويكيبيديا/ زهير بن أبي سلمى، القصة التالية المكتنزة عبرا تاريخية:
"كان عمر بن الخطاب شديد الإعجاب بزهير [أي زهير بن أبي سلمى]، أكد هذا ابن عباس إذ قال: خرجت مع عمر بن الخطاب في أول غزوة غزاها فقال لي: أنشدني لشاعر الشعراء، قلت: ومن هو يا أمير المؤمنين؟ قال: ابن أبي سُلمى، قلت: وبم صار كذلك؟ قال: لا يتبع حوشي الكلام ولا يعاظل في المنطق، ولا يقول إلا ما يعرف ولا يمتدح أحداً إلا بما فيه. وأيّد هذا الرأي كثرة بينهم عثمان بن عفان، وآخرون". (2)
فهل يطلب عمر أن ينشده أحدهم لشاعر الشعراء وفي قلبه ضغينة للشعر؟
لعلني لا أخطئ الظن أن عمر بن الخطاب لم يكن بكاره للشعر ولا بمحب له. ولعلني لا أجانب الصواب إذا ما قلت أن مصلحة الإسلام من أهم البوصلات الرئيسة التي كانت توجه عمر في الحكم على الأشياء وعلى الناس. وإني أكاد أجزم أن أبا عبدالله كان براغماتيا في مواجهته للكثير من الحالات التي اغتنى بها محيطه بمكنونه البشري والديني والمادي.
عمر بن الخطاب -أول من عمل بالتقويم الهجري- نسخ القرآن مكرها أخاك لا بطل، ذلك لأن الضرورة مصلحة الإسلام أباحت له المحظور نسخ القرآن. (3)
وعمر -أحد العشرة المبشرين بالجنة- حذف عبارة من عبارات الآذان لأنه وجدها تخمد من أوار حماسة المسلمين في القتال يوم كان المد الإسلامي يمتد شرقا وغربا إبان خلافته، ولا غرو في ذلك؛ فللضرورة أحكام. (4)
إذن، من الممكن القول أن جانبا من شخصية عمر بن الخطاب -أول من حمل لقب أمير المؤمنين- في نظرته لمعطيات الساعة المتغيرة بين الفينة والأخرى. كان يتسم بالبراغماتية. وعلى هذا الأساس، يقوم تفسيري لسلوك عمر بن الخطاب إزاء الكثير من المواقف التي تعرض لها طيلة فترة خلافته الفاروقية، ومنها موقفه من الشعر.
والبراغماتية كما لا يخفى على أحد تقوم على مبدأ قوامه أن الفكرة لا تكون صائبة إلا إذا كانت نافعة.
وعليه، متى كان الشعر ينفع المسلمين، عده عمر "علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه"، لا بل وجدنا عمر يمني النفس أن يقال في قومه آل الخطاب ما قيل بقوم الرجل الشاكي له شاعرا هجا قومه -على حد تعبير الرجل الشاكي- من شعر غني بالقيم الحميدة من منظور عمر. ولما كان عمر يقوم بأول غزوة بعد تسنمه إمارة المؤمنين، وجدناه يطلب من رفاقه أن ينشدوه لشاعر الشعراء لغاية في نفس يعقوب، واللبيب بالإشارة يفهم مغزى طلب عمر أن ينشد شعر وهو يغزو.
نأتي الآن إلى حادثة عمر وحسان. إن براغماتية عمر هنا ظاهرة بالنسبة لي من خلال دليل واحد ظاهري نستدل عليه من مكان القصة نفسها. ومكان القصة: المسجد، ولعل عمر توجس خبفة أن يلهي حسان الناس بشعره عن أداء الصلاة. والصلاة أحد أركان الإسلام الخمسة، والقصة زمانها صدر الإسلام؛ ولنا أن نتخيل كيف سيكون حال الإسلام في بدايته والناس يتبعون الشعراء! وأين يتبعونهم؟ في المسجد!
ونستطيع أن نستخلص براغماتية عمر من دليل باطني تحمله القصة في ثناياها كان الدكتور طه حسين قد أشار إليه عندما قال بأن حسان كان يذم قريش في أشعاره كعادته في زمن المصطفى.
هنا عمر خاف على وحدة الإسلام الديموغرافية؛ فقريش دخلت الإسلام مؤخرا، سبقها إليه المهاجرون والأنصار، ولو عرفت قريش أن عمر سمع حسان يهجوها وما حرك ساكنا لثارت ثائرتها عليه، لكن عمر كان من الدهاء بألا تفوته مثل هذه الفرص الثمينة، فكان أن زجر حسان ونهره عن الشعر ليصيب بذلك عصفورين بحجر واحد: كسب ود قريش، وحافظ على وحدة النسيج الإسلامي.
إذن، حينما كان للشعر منفعة، وجدنا عمر في موقف إيجابي منه، وحينما كان للشعر مضرة، وجدنا عمر في موقف سلبي منه، وتلك لعمري شذرة من شذرات عبقرية الفاروق بحلة براغماتية.
على هامش المقال:
نقرأ في كتاب (نظرية المعرفة) لمؤلفه زكي نجيب محمود، منشورات وزارة الثقافة الأردنية (2018)، ص(24):
لو وقفت عند مفترق الطرق ورأيت النور الأحمر في مصباح المرور، ثم قلت: إني"أعرف" أن هذا اللون أحمر، فما معنى "معرفتي" هذه؟ أجابك الواقعيون بأن معناها هو أن في رأسك صورة للواقع -سواء كانت صورة مطابقة للواقع أو غير مطابقة- أما البراجماتي فيقول إنها لا تكون "معرفة" إلا إذا هدتك إلى السلوك الذي تسلكه عند رؤيتك النور الأحمر، فتعرف إلى أي إتجاه يجوز السير وفي أي إتجاه لا يجوز، أما مجرد ارتسام صورة لون أحمر على صفحة ذهنك فليس "معرفة" في قليل أو كثير. وهكذا تكون الفكرة فكرة إذا كان فيها ما يدل على السلوك الناجح.
حواشي المقال:
1) شركة دار الوراق للنشر المحدودة، الطبعة الثالثة (2015).
2) [أنظر الرابط التالي: https://ar.m.wikipedia.org/wiki/%D8%B2%D9%87%D9%8A%D8%B1_%D8%A8%D9%86_%D8%A3%D8%A8%D9%8A_%D8%B3%D9%84%D9%85%D9%89]
3) أنظر كتاب (وعاظ السلاطين)، لمؤلفه د. علي الوردي، شركة دار الوراق للنشر المحدودة، الطبعة الخامسة (2017)، ص(170).
4) أنظر كتاب (نظرية المعرفة عند إبن خلدون، دراسة تحليلية)، لمؤلفه د.علي الوردي، ترجمة د. أنيس عبد الخالق محمود، الطبعة الأولى (2018)، دار الوراق للنشر، ص(307).