المثل القائل سبق السيف العذل , تعرفه العرب , وفحواه في مضمون مقالي هذا هو أن لا فائدة ترجى في التلاوم على هنات وأخطاء مضت, وليس ذلك سوى قعود ومضيعة للوقت .
الخطأ الذي أقصده هو ركوننا وبالكامل منذ الزلزال الإقتصادي عام 1989 إلى وصفات الصندوق والبنك الدوليين , ودون أن يكون لنا رأي في عرض الواقع الإجتماعي لشعبنا وعاداته وتقاليده وقدراته المالية ! .
بدأت أعراض تلك الوصفات الدولية تظهر على شعبنا تدريجيا خاصة في ظل هبوط القدرة الشرائية للدينار من جهة , وتزايد الضرائب والرسوم بصورة غير معهودة من جهة ثانية . ومن هنا بدأت المعاناة بالتزايد سريعا , وبدأ شعبنا ودولتنا يئنان معا تحت وطأة الفقر الذي إستوجب الإقتراض بشقيه الخارجي والداخلي , وكما يقول المثل الشعبي ," ما أهون الدين وما أصعب السداد".
سارت القافلة بصعوبة بالغة إلى أن إجتهد خبراء الإقتصاد وغيرهم في إستنباط حل للأزمة يقوم على فكرة التخاصية التي طبقوها بخروج القطاع العام من السوق وإطلاق يد القطاع الخاص في المقابل كي يدير النشاط الإقتصادي وحتى الإجتماعي في البلاد , ولنا في أزمة " كورونا " اليوم مثال حي على أهمية القطاع العام في حماية الدولة والمجتمع ,وفي المقابل على ضعف قدرات القطاع الخاص الذي بات في ظل الأزمة بحاجة ماسة إلى الدعم !
جرى تطبيق هذا الحل بتسارع كبير غاب فيه عن أذهان أصحابه , أن الأردن ليس كأي من دول الغرب , فهناك يتمتع المواطن المستهلك بدخل عال جدا وبمزايا صحية وتعليمية وخدماتية متقدمة جدا ومجانا أو بسعر الكلفة , وبالتالي لا تكاد الضرائب والرسوم تشكل أي أثر يذكر في قدراته المالية , بخلاف المواطن الأردني الذي أصبح جيبه مصدرا رئيسيا لتوفير موارد لخزينة الدولة.
ذاك خطأ رافقه وللأسف تطبيق خاطيء للتخاصية التي تعني في حقيقتها حتى في العالم الغربي , الشراكة بين القطاعين العام والخاص معا , أي إعلان شركة حكومية للإكتتاب العام لكافة الشعب وبنسبة 49 بالمائة من أسهمها, والباقي للحكومة من أجل ضمان ديمومة تأمين موارد معلومة للخزينة .
لا علينا , ما فات قد فات وإنتهى أمره , ولكن هل هنالك من حل جذري لمعالجة الخطأ الذي زينه خبراء الإقتصاد وأقرته القوانين وشارك الجميع فيه , فالدولة بسلطاتها وخبرائها وسائر ذوي العلاقة الرسمية والحزبية والنقابية والمدنية , وافقت وساهمت كل في مجاله , وليس لأحد أن يلقي باللائمة على آخرين بمفردهم .
الجواب وبإختصار , نعم هنالك حل جذري , والعودة عن الخطأ فضيله , فما هو هذا الحل ! .
معلوم أن الشعب , أي شعب على الكوكب , يتشكل إقتصاديا من فئتين كلاهما منتج ومستهلك في الوقت ذاته . وكيف ؟ : فئة تنتج سلعا وتستهلك خدمات , وفئة تنتج خدمات وتستهلك سلعا . مثال ذلك .. الجندي والموظف العام والخاص ينتجان خدمات وأمنا وحماية وطنية لا يمكن للصانع أو التاجر أو المزارع وجميع منتجي السلع المادية الإسغناء عنها , والعكس صحيح تماما , بمعنى أن كلا منهما يؤدي دورا تكامليا مع دور الآخر كي تسير العجلة الإقتصادية والإجتماعية , وبدون ذلك, فلن تسير .
هنا نختلف مع النظرية الإقتصادية المطبقة في عالم الغرب " أميركا وأوروبا " حيث الإقتصادات الكبرى والأجور والمداخيل العالية لمنتجي الخدمات , ولذلك يقوم إقتصادهم على دعم المنتجين لا المستهلكين الذين هم لا حاجة بهم إلى الدعم أصلا , في ظل ما يتلقون من أجور مجزية وخدمات شبه مجانية ذات مستوى عال .
النظرية المختلفة التي تصلح لبلد محدود الموارد كالأردن تقوم على توجيه الدعم الأكبر لمنتجي الخدمات وليس لمنتجي السلع . ولماذا؟ .
الجواب هو أن زيادة دخول منتجي الخدمات المدنيين والعسكريين وفي القطاعين العام والخاص تعني ببساطة ما يلي :
1 : رفع قدرات هذه الفئة التي تشكل أكثر من 90 بالمائة من الطبقة العاملة من الشعب , وهم من يطلق عليهم تسمية " الطبقة الوسطى " عن طريق زيادة رواتبهم بنسبة لا تقل عن 70 بالمائة من مجمل الراتب وإن أمكن فأكثر , تعني عمليا زيادة قدراتهم الشرائية بصورة كبيرة , أي أن إستهلاكهم للسلع سيزداد كثيرا, ولاحظوا مثلا كيف تتحرك الأسواق عند تسلم هذه الفئة الكبرى رواتبها , ليعود الركود بعد أيام قليلة , فالرواتب تذهب أصلا إلى القطاع الخاص كمشتريات , ولولاها لما كان لدينا قطاع خاص بالمعنى الفعلي .
2 : هذا يعني أن مبيعات منتجي السلع " القطاع الخاص " سترتفع كثيرا وستصبح أرباحهم أكثر .
3 : وبزيادة مبيعاتهم وأرباحهم سيضطر منتجو السلع إيجابيا إلى زيادة إنتاجهم لتلبية الطلب المتزايد على تلك السلع والخدمات ., وبالتالي سيحتاجون إلى عمالة أكثر لتحقيق ذلك الهدف , وهذ سيؤدي إلى توفير فرص عمل أكثر, والحد من البطالة وهي سبب الفقر , إن لم يكن إنهاؤها تماما .
4 : ومتى تحققت الكفاية المالية للعاملين في القطاعين العام والخاص من خلال عملية تبادلية هي " شراء وبيع " , فإن ذلك سينعكس إيجابيا على الأوضاع الإقتصادية, والأمنية والإجتماعية في البلد عموما , وستخف أعباء المتابعة على الأجهزة الأمنية وسيتلاشى خطر المخدرات والسرقات والسطو وحتى التهريب والفساد, وستزداد عوائد الضرائب والرسوم تلقائيا, دون أن يتأثر بها دافعوها سواء أكانوا موظفين أو شركات وأعمال قطاع خاص , بمعنى بيع أكثر بأسعار أقل أو أفضل يعني إزدهارا إقتصاديا وإجتماعيا , وبالتالي حياة أفضل .
ختاما : خذوها مني , وجهوا أموالا كثيرة مخصصة لمشروعات قد تبدو ترفية في هذا الزمن الحرج أو هي قابلة للتأجيل , وأضيفوها إلى رواتب العاملين في القطاع العام , على أن يفعل ملاك القطاع الخاص , بنوك وشركات ومصانع ومؤسسات كبرى بالمثل , أي رفع رواتب مستخدميهم بنسب مماثلة , وسترون الفرق سريعا.
الأهم , سارعوا في العودة إلى ما قبل" طبابة" الصندوق والنقد الدوليين , وأسسوا شركات كبرى تملكها الحكومة بالكامل في مجالات الطاقة بكل أشكالها والزراعة والسياحة والطب والصناعات الطبية والدوائية والتعليمية , فهذه هي موارد الأردن القادرة على أن تكون " حنفيات " تصب كل يوم مالا في خزنة الدولة, للتخفيف عن كواهل المواطنين , والذين متى توفرت لهم خدمات كاملة وجيدة , ستستقيم الأمور في بلدنا وسيصبح غنيا لا فقيرا بإذن الله , وهو سبحانه من وراء قصدي .