ما فعله بنا فيروس كورونا عجزت كل الحروب عن فعله وكل الكوارث والثورات الكبرى عبر التاريخ، لقد أعاد كورونا الحضارة الإنسانية من "عولمتها" المتوحشة التي كانت ماضية بسرعة لا محدودة نحو "سلخ الإنسان" عن آدميته وعلاقته ببيئته الطبيعية والبشرية في عبورها الصاروخي نحو عصر الإنسان المدجن أو"الإنسان الرقمي" أعادها إلى صوابها أو إلى عقلها المفقود أوالمنحوت، بعدما بات هذا الإنسان متبلداً فاقداً للشعور بالخوف الطبيعي المعتاد، وبالألم والوجع وبالسعادة النقية أو حتى اللذة الناتجة عن الشوق والحب، وبعدما بات فيها هذا الإنسان مجرد رقم ضمن مجاميع ضخمة من الأرقام، وتحول واقعياً إلى إنسان افتراضي أورقم بلا هوية أو شخصية وبلا كينونة.
أعادنا فيروس كورونا إلى طبيعتنا البشرية وفجر فينا من جديد الشعور بالحياة والتمسك بها رغم وقعه القاسي علينا وعلى الكثير من والعادات الاجتماعية والمهنية، ففقد الحب أهم سماته التعبيرية وتحول إلى حب بلا قبل وعناق، والتحية فقدت حرارة قبضة اليد واكتفت بهز الرأس، كما تحول الابتعاد عن التجمعات والسهرات وليالي السمر نوعاً من لذة الشعور بالنجاة والأمان من قاتل شرس يتربص بنا أينما ذهبنا وفي أي مكان. وما تأسسنا عليه من عادات وتقاليد بل وقيم أخلاقية واجتماعية هاجمها كورونا بكل ضراوة وفتك، في جزء كبير منها وغيرها أو برمجها لتتناسب مع زمنه وسطوته، هندسها على وقع ديكتاتوريته، وها نحن اليوم نشهد أول
أيام شهر رمضان المبارك في غياب كامل لمظاهر هذا الشهر الفضيل الاجتماعية "موائد الرحمن" وسهرات رمضان، كما أغلق كورونا الصلاة في المساجد، بعد أن ألغى صلاة الجمعة جماعة وهي أشياء فرضها هذا الفيروس على المسلمين بالإكراه وقبلوا بها على أرضية القاعدة الفقهية القائلة "الضرورات تبيح المحظورات" وعملاً بالآية الكريمة "فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ " البقرة/ 173، وكذلك جرى للكنائس وللأخوة
المسيحيين الذين احتفلوا بعيد الفصح المجيد دون الذهاب إلى الكنائس ودون تزاور.
بعض المجتمعات العربية وغير العربية لم تكن تعرف ثقافة الوقوف أو الانتظار في الطابور لدفع الفواتير، أو لتلقي الخدمة أو لشراء الاحتياجات بشتى أنواعها، هذا عدا النظافة الشخصية وتحديداً غسل اليدين وتجنب المصافحة، ولكن اليوم نرى أن الأغلبية العظمى من سكان العالم يقومون بذلك حرصاً على صحتهم وهو سلوك سيتحول إلى عادة بكل تأكيد إلى عادة حميدة، وباتت صورة الإنسان "المكمم" أي الذي يلبس الكمامة علامة خاصة بزمن الكورونا وفي الأغلب ستبقى عادة لبس الكمامة على "قيد الحياة" مع البشر في معظم بقاع الأرض لزمن قادم ليس بالقصير.
فيروس كورونا لم "يهندس سلوكنا" فحسب بل هندس قيمنا ومعتقداتنا وغير أولويات حياتنا.
ففي زمن كورونا تحولت قيمة البطولة والشجاعة والفروسية في مواجهة العدو في جبهات المعارك العسكرية إلى القتال ضد الفيروس في المستشفيات والمراكز الصحية، وبات الطبيب أو الطبيبة والممرض أو الممرضة يستحق أو تستحق لقب فارس أو فارسة، وعند وفاته بسبب الفيروس، والوفاة بسببه يستحق أو تستحق وبكل جدارة لقب "الفارس الشهيد" لأن أي منهما مات في معركة تعادل تماماً ساحات الوغى التب واجه فيها ما هو أكثر خطورة من الرصاص والقنابل، وبات "الجيش الأبيض" في وجدان معظم شعوب الأرض تماماً كما الجيش التقليدي الذي يحمي الحدود من الأعداء.
غير كورونا أولوياتنا واهتماماتنا، فمنذ أكثر من شهرين لا يوجد أي خبر أهم من أخبار الفيروس الخبيث أي "لا خبر يعلو على خبر كورونا"، فأصبح هو الخبر وهو المبتدأ وهو
الصورة وهو الظل والأصل وحتى النجومية تلك التي كانت تلتصق بالشخصيات الفنية أو الرياضية أو عارضة الأزياء تكاد تكون قد اختفت لتحل بدلاً منها شخصيات الأطباء والعلماء والخبراء المتخصصين بعلم الأوبئة والفيروسات الذين تتلقفهم الفضائيات للحوار معهم، ومن أبرز الأمثلة على ذلك هي نجومية عالم الاوبئة الأمريكي أنتوني فاوتشي الذي لم نكن نسمع باسمه من قبل في الإعلام ولكنه بات اليوم حاضراً في معظم إيجازات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وأبرز نجوم زمن كورونا.