أطلق المفكر والعالم الأمريكي من أصول لبنانية نسيم طالب نظرية البجعة السوداء "Black Swan Theory" في العام 2007 في كتابه الذي يحمل اسم النظرية؛ للإشارة إلى الأحداث غير المتوقعة والمجهولة ونادرة الحصول والتي تُفاجىء العالم الذي لم يخطط لها أو يتخيّل وقوعها.
يأتي اسم النظرية من أن الانطباع الدارج والحقيقة المؤكدة لدى الكثيرين هي أن لون البجع هو الأبيض، والذي هو الاعتقاد السائد قبل اكتشاف القارة الأسترالية، ولكن بعد اكتشاف أستراليا، رُصدت أول بجعة سوداء، وبمشاهدة واحدة فقط كانت المفاجأة غير المتوقعة التي تُناقض المسلّمات ومن شبه المستحيل حصولها، وانتفت الصفة التأكيدية الناتجة عن ملايين المشاهدات السابقة للون الأبيض للبجع.
أحداث البجعات السوداء تتميز بثلاث صفات، أولها أنها مفاجأة وغير متوقعة، وثانيها أن أثرها يكون كبيرًا وضخمًا، وثالثها بعد حدوثها يميل الناس إلى إيجاد تفسير منطقي لها ومحاولة إدراجها ضمن الأمور المتوقعة التي كان من الممكن تنبؤها، على مدار العقود الماضية شهد العالم أحداثًا قد توصف بأنها بجعة سوداء مثل الأزمة المالية العالمية في العام 2007، أحداث 11 سبتمبر، ظهور الإنترنت، والحرب العالمية الأولى، وغيرها من الأحداث غير الاعتيادية والتي غيّرت مجرى التاريخ.
مع تفشّي جائحة كورونا حول العالم وفتكها باقتصادات الدول، عدّل صندوق النقد الدولي مؤخرًا تقديراته للعام 2020، وتوقع أن ينكمش الاقتصاد العالمي بمعدل 3% في نهاية العام بعد أن كان قد تنبأ سابقًاً معدل نمو مقداره 3.3%، استشرافات أخرى سلبية مرتبطة بالبطالة العالمية والتجارة الدولية والأنشطة السياحية تم نشرها من منظمات وجهات متعددة لمحاولة تقدير أثر الكارثة الوبائية، قد يمثل الفيروس المستجد بجعة سوداء ذات تأثيرات هائلة.
نتساءل اليوم وفي ظل الظروف القائمة وتوقف وتباطؤ العديد من الأنشطة الاقتصادية بالذات الخدمية منها عن المتانة المالية للشركات في مواجهة هذه الأحداث، خصوصًاً المؤسسات التي ترتفع فيها نسب الاستدانة إلى رأس المال، وبالعادة فإن الاستدانة للمشاريع التوسعية والاستثمارية تُدعم بدراسات جدوى اقتصادية يتضمّنها احتساب لمعدلات العائد على الاستثمار، واحتساب معدلات العائد الداخلي، وفترات الاسترداد، وتعتمد هذه التحليلات المالية على توقعات التدفقات النقدية التي كثيرًاً ما تكون خطية لا تراعي الأحداث نادرة الحصول، بل تبني على نمو وطلب مستمر! وحتى عند تطبيق تحاليل الحساسية والسيناريوهات المختلفة كثيرًا منها لا تفترض أحداثًا كبيرة التأثير.
في سياق متصل وبحسب نظرية البجعة السوداء فإن مفهوم التخطيط بعيد المدى واستشراف المستقبل المبني على أهداف طويلة الأمد المستند إلى بينات تاريخية قد يكون مغالطة تنطوي على عواقب وخيمة، فالاستراتيجية الصحيحة بحسب كتاب نسيم تكون بأهداف أصغر تقلل من الاعتماد على التخطيط من أعلى لأسفل، وتؤّمن المرونة المطلوبة لاقتناص الفرص في حال ظهورها، هذا الطرح ينسجم مع المفهوم الإداري المعروف بالرشاقة المؤسسية "Business Agility" والذي ينادي بتصميم المؤسسات بشكل أقدر على التجاوب بشكل مستمر مع المتغيرات من خلال تكيّف أنظمتها وعمليتها الرئيسة مع الظروف المحيطة.
مما لا شك فيه أن الصدمة الاقتصادية التي خلّفها هذا الوباء والظروف المصاحبة له ستترك أثرًاً بالغًا على المفاهيم والعلوم المالية والإدارية، خصوصًا بما يرتبط بأساليب التخطيط وأخذ القرارات الاستثمارية، قد يصاحب ذلك متطلبات جديدة تفرضها مرجعيات أخذ القرارات الاستثمارية أو الجهات الرقابية على الشركات، كالتوسع في اختبارات الإجهاد "Stress Testing" والذي هو محاكاة مصممة لتحديد قدرة مؤسسة مالية معينة على التعامل مع أزمة اقتصادية، لتشمل أيضًا اختبارات إجهاد للمؤسسات الكبرى غير المالية وبالذات عالية المديونية وبما يتناسب مع طبيعتها سواء أكانت خدمية أم صناعية.
من المفارقات غير المتوقعة أنه وبالرغم من إشارة العديد من الكتاب والمتخصصين بأن فيروس كورونا يمثل البجعة السوداء للعام 2020، إلا أن نسيم طالب مؤلف النظرية أكد في مقال له نشرها مؤخرًا أن جائحة كورونا هي بجعة بيضاء؛ لأن احتمالية ظهور وباء مستشرٍ ينتشر عالميًا، ويكون له تداعيات على الاقتصاد كان أمرًاً متوقعًاً نتيجة هيكل العالم الحديث وترابطاته المتعددة، وفي الواقع كانت حكومة سنغافورة التي قدّم لها النصح والاستشارة سابقًا مستعدة لمثل هذا الاحتمال بخطة دقيقة منذ العام 2010.