تتنامى الانطباعات بأن مناخ الحريات العامة, بما في ذلك سقوف السلطة الرابعة لا سيما المستقلة منها, قد تشهد مزيدا من التضييق باستخدام قفّازات ناعمة لا تترك الكثير من الندوب.
فالمرحلة المقبلة حبلى بالتحدّيات الخارجية بعد أن عقدت إدارة باراك أوباما العزم على تحريك عجلة السلام بعد عام من المراوحة, لكن طبقا لشروط إسرائيل في ظل إخفاق العرب في صيانة مصالحهم وانكشاف ظهر جميعهم. يعطف على ذلك إرث تراكم الصعوبات الداخلية الاقتصادية, السياسية والاجتماعية المتنامية.
تعلو أصوات من التيار المحافظ واسع النفوذ ومدرسة الليبرالية الاقتصادية لتلوم الاعلام على تراجع هيبة الدولة وضياع البوصلة. البعض يتمنّى العودة لسنوات خلت حين لم يكن في الأردن إلا يوميتان, واحدة حكومية والأخرى شبه حكومية, إذاعة وتلفزيون حكومي, ووكالة أنباء رسمية. إذ كان التحكّم أيسر بتمرير المعلومات وبعقول الناس.
قريبا قد يضطر الإعلام بتلاوينه الحكومية, شبه الحكومية والمستقلة للدفاع عن قرارات غير شعبية ربما تلجأ الحكومة لاتخاذها من أجل حماية الأمن الوطني ومصالح الأردن العليا. أو قد يحيّد نفسه على منوال الطريقة التقليدية المعهودة عبر الخوض في أقل التفاصيل ووضع الاخبار الاشكالية في الصفحات الداخلية.
الارضية تجهّز يوما بعد يوم. وزير محوري في حكومة الرفاعي اليوم هو ناشر لصحيفة مستقلة كانت دوما الصوت الأعلى في معارضة نهج الليبراليين الاقتصاديين بلا قيود. ما زالت الصحيفة تحاول مسك العصا من النصف لكن الجميع يتساءل الى متى تصمد?. ووزير آخر يمتلك أسهما في يومية, فيما تواصل الحكومة الاستحواذ على 66 بالمائة من أسهم أعلى الصحف انتشارا. ورابعة مستقلة خسرت أكثر كتابها جرأة بعد أن أقنعته الحكومة في الانضمام إليها كمستشار سياسي.
يوم الثلاثاء, عيّن مجلس الوزراء الزميل الاشكالي وزير الاعلام الأسبق صالح القّلاب, يميني محافظ, رئيسا لمجلس إدارة مؤسسة الأذاعة والتلفزيون وكلفه بمهام بإدارة المؤسسة بالوكالة, بعد استقالته من مجلس الأعيان ومنحه وسام الكوكب الأردني من الدرجة الاولى. هناك فئة ترى في القّلاب إداريا قادرا على تحديث التلفزيون, وشخصية وطنية مستعدة للذهاب إلى آخر المطاف في سبيل حماية الأردن من أعدائه في الداخل والخارج بلا تحرج, مقابل من يصفه بصاحب مواقف تصعيدية مدعومة بلسان حاد قد تدفع باتجاه عودة مرحلة "إعلام التأزيم".
التعيين المفاجئ جاء بعد أيام على نشره مقالا في "الرأي" شبه الرسمية قرّع فيه 78 شخصية إسلامية-نقابية-سياسية وقعت على بيان انتقدت فيه التعاون الأمني والتنسيق الاستخباري مع واشنطن.
قبلها بأيام تعرّضت وسيلة إعلام محلية لضغوط قويّة لفصل أحد الصحافيين العاملين لديها لأنه انتقد بلغة حادّة سياسات مكافحة الإرهاب, خلال مقابلة تلفزيونية مع فضائية عربية, وليس بسبب مقالة نشرتها له.
حزمة من التغييرات طالت مواقع رئيسية في مؤسسات رسمية وشبه رسمية نظر إلى بعضها بأنها تتسم بروح ثأرية. لكن غالبية وسائل الاعلام لم تقف عندها, ولم تسأل اللجنة الوزارية المعنية بالتعيين حسب الأصول عن الأسس التي اتبعت في اختيار الاسماء الاخيرة.
التسريبات الرسمية تتحدث أيضا عن توافق بين غالبية مراكز القوى لجهة عدم تغيير قانون الصوت الواحد, لكن مع ادخال تعديلات لتعزيز الشفافية, النزاهة والعدالة في عملية الاقتراع وتشديد عقوبات المخالفات الانتخابية. تطبيق اللامركزية على مستوى المحافظات, قد يطاله التأجيل لما بعد الانتخابات (خلال الربع الأخير من 2010) بعد أن كانت التوقعات الأولية توقعت إجراء الاقتراعين هذا العام ليصبح عام الإصلاح السياسي.
المواجهة تختمر بين الحكومة والمواقع الالكترونية بعد أن هطل قرار التمييز بإخضاع ال¯ 55 موقعا لقانون المطبوعات والنشر هدية من السماء على السلطة التنفيذية. فها هي تشرع في صياغة نظام خاص تخضع بموجبه هذه المواقع لقانون المطبوعات والنشر أسوة بالصحف. ناشرو المواقع رأوا في هذه الخطوة استهدافا استباقيا لمنابرهم الفضائية ومحاولة للحد من سقف الحريات الذي توفره مستغلة الفراغ الذي تركه الاعلام الرسمي المرعوب. الاعلام المستقل, يتعرض أيضا لضغوط مباشرة وغير مباشرة لكي يوفر أجواء حاضنة لا تسمح بإفشال الإصرار الرسمي على تعزيز التحديث الشامل بعد تكليف حكومة الرفاعي برسم خارطة طريق قد توفر الشحنة الاكثر قوّة صوب خيار الاصلاح الذي يدور في حلقات مفرغة منذ سنوات.
وفي الخلفية حفنة وزراء يتصلون بوسائل إعلام, حتى المستقل منها, للحصول على مصادر استخدمها صحافيون لكتابة تحقيقات استقصائية كشفت المستور. ظاهرها يعكس رغبة الوزير في تصحيح الأمور بعد أن كشفتها الصحافة, لكن هدفها غير المعلن كشف المصادر التي تسرّب الخبايا. بتلك التصرفات يضرب الوزراء بعرض الحائط قانون المطبوعات والنشر الذي يحمي سرية مصادر الصحافيين حتى أمام القضاء, ويخالفون مدونة حكومة الرفاعي حول تنظيم العلاقة بين السلطة التنفيذية والصحافيين على أسس مهنية بعيدة عن الريعية والابتزاز.
قبل شهر استضاف مركز دراسات تابع ليومية ندوة عن سيناريوهات إصلاح قانون الانتخاب. تحدث في الندوة وزير التنمية السياسية موسى المعايطة وأمين عام المركز الوطني لحقوق الإنسان د. محي الدين طوق. خبر الندوة نشر على موقع الصحيفة الالكتروني, لكنه غيّب عن نسختها الورقية امتثالا لطلب بعض الجهات. المفارقة أن وسيلة إعلام شبه رسمية لا تسلّط الضوء على ما يقوله وزير عامل يفترض أنه يعكف على إصدار قانون انتخاب مؤقت.
قبل أيام, كشف تقريران عن "هيومن رايتس واتش" و"فريدوم هاوس" أن حال حقوق الإنسان والحريات العامّة في المملكة لم يتقدما في العام الماضي. تقرير مواز عن "بيت الحرية" صنّف الأردن ضمن الدول التي لا يوجد فيها حريات بعد ان كان من بين الدول الحرة جزئيا في العام الماضي, تاركا لبنان والكويت وحدهما عربيا في هذه المنزلة. السبب الرئيس وراء تراجع مرتبة الأردن كان قرار حل البرلمان قبل شهرين, بدون إبداء أسباب, وبعده تأجيل الانتخابات.
بسرعة البرق تجاوبت الحكومة مع تقرير "هيومن واتش" إذ أعلنت أنها ستقدم ردا مفصلا عليه حال تسلمها نسخة عنه.
التقرير بنى استنتاجه على عدم حدوث تغييرات مهمة على ممارسات حقوق الإنسان وبالتحديد: "تشديد القيود على حرية منظمات المجتمع المدني, التعذيب والضرب في السجون, واستمرار التوقيف الإداري".
ذلك الخليط سيؤثر بالتأكيد على سمعة الأردن في مجال الحريات السياسية والصحافية نحن في غنى عنها هذه الايام. فجوة الثقة بين الحكومة والشارع ستتعمق. سيتواصل الجدل حول وجود رؤية واضحة للدولة أو إرادة سياسية صوب مأسسة إصلاحات تعزز بناء الأردن كدولة قانون ومساواة في حقوق المواطنة.
فالمجتمع الدولي الذي تحتاجه المملكة لتمويل العجز ودعم برامج التحديث الاقتصادي, يراقب التصرفات ويسجّل نقاطا ضد مصداقية الخطاب الرسمي ووعود التحديث السياسي.
يفاقم الوضع غياب تفاهم مجتمعي ورسمي لدور الإعلام في دعم التغيير. علاقة غالبية المسؤولين مع الإعلام تقع في إطار ثنائية العداء أو الاحتواء. الأخطر يأتي حين تقبل السلطة الرابعة بذلك وتأخذ الأرض بدلا من أن تعمل بجد على بناء ثقافة وطنية جديدة في زمن تراجعت فيه قنوات الحوار. يتناسى الجميع منهجيات عمل الإعلام في مجتمع ديناميكي يساعد على إعادة تشكيل رأي عام, لا يؤمن بالتعددية ولا يرغب في رؤية صورته الحقيقية في المرآة.
أما المسؤول, فيتناسى أن عامل بقاء الحكومات يكمن في قربها من هموم الناس وقياس اتجاهات المجتمع بدلا من الاستسلام للاعتقاد بأن سياساتها تحظى بقبول شعبي على وقع المكابرة والتعبئة الإعلامية. الخاسر الأكبر هو الوطن.
يتناسى أيضا أن السلطة الرابعة أكثر تأثيرا من التنفيذية لأنها تدير أدوات التواصل مع الرأي العام. لكن ينقصه التدريب على صناعة رسائل إعلامية صريحة تساهم في تغيير التقاليد السلبية, كما عليه امتلاك فنون التعامل مع الإعلام لتحضير الرأي العام قبيل اتخاذ قرارات مصيرية.
أما الإعلام, فلا مجال أمامه سوى إعادة الاحترام لدوره المفقود وثقة المجتمع بأن مهمته تخرج عن إطار التحشيد والفزعة في عصر ثورة المعلومات والانترنت.
البداية تكمن في فصل عرى التداخل الحاصل بين الإعلام والحكومة والأجهزة الأمنية بدعوى حماية الأمن الوطني على حساب صدقية الجميع.
فمهمة الصحافي فقء الدمّل وإخراج السموم منه من أجل حماية الجسم كلّه, حتى لو أوجعت هذه المهمة فئة تسعى لإخفاء إخفاقاتها حماية لمكتسباتها, ظنّا منها أن صحّة الوطن من صحتها.0
rana.sabbagh@alarabalyawm.net
العرب اليوم