طروحات أبو غزالة من منظور علمي وموضوعي
أ. د أحمد العجلوني
22-04-2020 12:33 PM
ما زال السيد طلال أبو غزالة رجل الأعمال المعروف يثير الكثير من الجدل بآرائه وتوقعاته حول القضايا الاقتصادية العالمية منها والمحلية. وقد ترددت كثيراً قبل أن أكرّس وقتاً لمناقشة ما يتفضل به لأنني كنت - وما زلت أرى- أن كثيراً من توقعاته وأحكامه يفتقر للمستوى المقبول من المحتوى العلمي والتناول الموضوعي. ولكثرة تسليط الأضواء عليه وإبراز الإعلام لوجهة نظره دون عرض ما يناقضها، وارتباط وجهات نظره بالظرف الدقيق الحسّاس الذي يمر به بلدنا؛ فقد وجدت أنه من حق البلد والمجتمع أن يسمع رأي شخص بخبرة متواضعة في التدريس الجامعي والبحث العلمي في التمويل والمؤسسات والأسواق المالية لما يزيد عن خمسة وعشرين عاماً. وسوف أعرض وجهة نظري من خلال عدة مقالات إن شاء الله. سيخصص هذا المقال الأول منها حول السيد أبو غزالة وموقفه من التأثير الاقتصادي لأزمة الكورونا على الأردن.
إن رجلاً بعصامية وخبرة السيد أبو غزالة الإدارية والاستثمارية الممتدة لعشرات السنين يعتبر مدرسة يتعلم منها الكثيرون -وأنا منهم- ويستفيدون، ولا يستهين بخبرته وذكاءه أو ينتقص منهما إلا غرّ أو مغرور. وما زلت أتمنى أن يكرّس هذا الرجل الخبير جزءاً من وقته لعرض تجاربه في الإدارة كحالات دراسية يستفيد منها طلبة العلم والمستثمرون، وأن يجدّد في خطابه وأفكاره التي باتت مكرّرة منذ سنوات عديدة. ومثل أي شخص يؤخذ من كلامه ويرد عليه ارتأيت أن أضع آراء ومواقف السيد الفاضل على طاولة النقاش العلمي والحكم الموضوعي المتجرد دون احتكار للحقيقة أو شخصنة للأمور أو شيطنة للرجل.
وفي هذا المقام أؤكد بأنني أناقش أفكاراً وآراء، وليس سيرة شخصية، وليس من حقي ولا في دائرة اهتمامي أن أقيّم الناس وأحكم على شخصياتهم وأقيم عليهم ميزاني، كما أن هذا ليس من اختصاصي ولا يعنيني في هذا المقام. وأنكر على أي شخص يشتم السيد أبو غزالة وينال من شخصه أو يتطاول عليه، فهو -على الأقل- رجل "شايب" والشيبة لها حق الاحترام والتقدير في ديننا وأخلاقنا كشعب أردني.
لنتخيل خروج طبيب مشهور –على سبيل المثال- على وسائل الإعلام في ذروة هذه الأزمة مصرّحاً بأن "كل مراكز الأبحاث والتقارير العلمية" في أمريكا "تجمع" و"تؤكد" على أن وباء الكورونا سيصيب الأردن كما أصاب أمريكا، وأن الإصابات ستكون بمئات الآلاف؛ ويعيد ذلك ويكرره. ثم يدّعي بأن هذه مجرد وجهة نظر شخصية! دون إدراك تبعاتها وعواقبها وعمق تأثيرها السلبي على البلد وجهوده في مكافحة هذه الجائحة. فهل يقبل هذا منه ويتم التغاضي عنه؟!
إن نشر السلبيات في لباس "الحقيقة" المؤكدة أو حتى من باب التقدير والاجتهاد، دون ذكر الإيجابيات، يشير إلى انعدام التوازن والافتقار للطرح العلمي الرصين. كما أن الاستمرار في تكرار نفس الرسالة وتضخيمها إعلامياً يفت في عضد المجتمع ويثير الإحباط، خاصة عندما يكون التوقيت غير ملائم لهذه "المصارحة". وكاتب هذه السطور يبحث فقط عن التوازن في عرض الحقائق بتجرد بعيداً عن هوى رجل أعمال طامع أو سياسي طامح! فإذا كنت صادقاً في تحذيري لك من النار التي قد تلتهم بيتك، فلا اقل من أن أدلك على دلو الماء. ولا يعفى شخص من وزن السيد أبو غزالة -ولو أخلاقياً- من تبعات وعواقب تصريحاته التي يناقض فيها التصريحات الحكومية وبيانات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي فيما يتعلق بالنمو والتعافي من أزمة الكورونا وآثارها الاقتصادية، وأثر كلامه السلبي على البلد.
ذكر السيد أبو غزالة في حديثة المصور الأخير ثلاثة نقاط حول تصدي دول العالم للأزمة، الأولى تتعلق بالحزم في الإجراءات وقوة الاستجابة الصحية والأمنية، وكنت أنتظر أن يشيد بالنموذج الأردني ذو الأداء المتميز المشهود له عالمياً، ولكنه لم يفرّحنا بهذه الإيجابية. والثانية تتعلق باستجابة الدول وتصديها للأزمة في الجانب الاقتصادي من حيث الموازنة بين دعم المتعطلين ودعم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة التي تشغّلهم، وكان أن خاب أملي مرة أخرى بعدم التطرق للتجربة الأردنية التي تميزت بهذه النقطة الإيجابية أيضاً. والثالثة أن أوصى بالاهتمام بالتصنيع الدوائي، وهنا لم يتطرق أيضاً سعادته لتميّز الأردن في هذا الجانب كنقطة إيجابية!
كما أشار سعادته إلى علاقة "المواطنين الرقميين" بالدخل القومي، وأورد أمثلة دول كالسويد،. ولكن مقارنة بسيطة جداً بين الأردن والسويد في معالجة الأزمة يتبين من هي الدولة الأفضل. إن ناتجاً قومياً أعلى لا يعني إنساناً أفضل، وهذا من إيجابيات الكورونا ودروسها الكثيرة التي لم يفرّحنا بها سعادته كذلك! فلماذا نستكثر على هذا البلد أن يكون بحال أفضل اقتصادياً كما هو الآن صحيّاً وأمنياً –وكما يثبت الواقع- أفضل من أغلب الدول المتقدمة.
إضافة لما سبق من الحقائق التي أغفلها السيد أبو غزالة من إيجابيات مؤكدة -وليست مجرد توقعات حالمة- فإنني أشير إلى مآخذ أخرى لبيان مدى الاختلال في طروحات السيد أبو غزالة فيما يتعلق بتأثيرات الأزمة على الأردن:
- فقد غيّب حقيقة استفادة الموازنة العامة بمقدار مليار دينار أردني نتيجة انخفاض أسعار النفط نتيجة للأزمة. وهذا غير الوفر الذي سيفيد الاقتصاد الأردني الذي يستورد 96% من حاجته للبترول.
- تحدث عن ركود عالمي لعدة أعوام يمتد حتى 2025، فيما يشير صندوق النقد الدولي إلى بداية تعاف ليرتفع ليشهد الاقتصاد الأردني عام 2021 نسبة نمو تصل إلى 3.7% مقارنة ب 2% عام 2019. يضاف إلى ذلك توقع رئيس بعثة صندوق النقد الدولي للأردن كريستوفر جارفس أن يستعيد الاقتصاد الأردني وتيرة نموه بشكل أسرع من الدول الأخرى نتيجة الاجراءات الصحية والاقتصادية التي اتخذتها الحكومة للحد من تبعات أزمة كورونا. وبنفس الاتجاه تأتي توقعات البنك الدولي.
- تجاهل الأثر الإيجابي للأزمة في خفض تلوث البيئة والأثر الاقتصادي لذلك؟
- لم يشر إلى عناصر القوة الذاتية الكثيرة التي أبرزتها الأزمة، والتي خلقت فرصاً لم نكن نتوقعها، مثل التميّز العالمي للأردن في التصنيع الدوائي.
- أغفل أهمية نجاح الاستثمار في البنى التحتية في القطاع العام من تعليم وصحة وأمن في الأردن؟
- لم نسمع من السيد أي اقتراحات عملية محددة قابلة للتطبيق بخصوص مواجهة الأزمة على الصعيد الأردني.
نحن لا نبغي أن نسمع أو نذيع أخباراً "حلوة" فقط على رأي السيد أبو غزالة، ولكنني أعتب عليه بأننا لا نسمع منه سوى أخباراً "مرّة" فقط أيضاً! ولا تقل لي سيدي بأن هناك أخباراً حلوة على المدى الطويل بعد عام 2025. وأذكّر بقول عالم الاقتصاد الشهير "كينز" بأننا كلنا سنموت على المدى البعيد In the long run we are all dead. وأستأذن القرّاء الكرام بأن أترك مغزى هذه العبارة للسيد أبو غزالة إن وصلت هذه المقالة له وقرأها.
إن كان هناك مجال للتسامح والإعذار في بث التشاؤم والسلبية من كاتب غير متخصص أو باحث مبتدئ عن الشهرة، فلا يقبل بأي حال من رجل أعمال ووجه معروف بمرتبة رجل دولة تفتح له وسائل الإعلام مصاريع أبوابها ويسمع الناس كلامه. ففي وقت الأزمات والشدّة تزداد أهمية مقولة "ليس كل ما يعلم يقال" هذا إن كان ما يقال مثبتاً كحقيقة ماثلة وليس مجرد "وجهة نظر"، والحديث الموجه إلى عامة الناس بما يمس الأمن الاقتصادي والاجتماعي غير الحديث مع متخصصين، خاصة أن الكلام في الاقتصاد له أوجه اختلافات يدرك المتخصصون طبيعتها ومراميها وكيفية تفسيرها بشكل سليم، حتى نتلافى خلق آثاراً سلبية مضاعفة وقت الأزمات. ولعل أغلى نصيحة كان يمكن أن نسمعها من الرجل الحكيم هي: "إن كان الكلام من فضة فإن السكوت من ذهب".
حفظ الله الأردن واقتصاده وأدام ازدهاره