التعليم العالي .. "في عصر الميديا وسيولة المعلومات"
مسَـلم الكساسبة
24-01-2010 05:18 AM
كثيرة هي الأسماء التي أطلقت على عصرنا الحاضر :
عصر الفضاء ..عصر الذرّة ..عصر ما بعد الصناعة .. وصولا إلى "عصر ما بعد الحداثة " .. وإلى عصر الاتصالات بسيطة ومركبة .. إلى تسميات جديدة من مثل :
عصر الآلة الذكية والذكاء الاصطناعي (الإنسان الآلة)
وحتى "عصر سيولة المعرفة وثورة المعلومات ".
وإذا كانت كل واحدة من تلك التسميات تصف جانبا أو سمة من سمات ذلك المسمى أو حقبة من حقبه ومراحله فإن التسمية الأخيرة تختزل كل تلك الصفات معا .. فالفضاء والذرة والصناعة والحداثة وما بعدها كلها تتراكم في كم من المعارف والمعلومات السائلة والمتاحة بحرية بشكلٍ قرّب للأذهان فكرة المُثُل الفلسفية لأفلاطون والقائلة بان الأشياء المتكثرة هي صور منسوخة عن(الفكر أو الفكرة) والتي هي حقيقة الشيء .. بمعنى أن الحالات المشخصة للأشياء هي صور أو نسخ مكررة أما الأصل فهو فكرة الشيء .. ومنه أتت مقولة "الفكر هو الوجود الحقيقي" ومنها عبارة ديكارت الشهيرة : أنا أفكر إذا أنا موجود .. حيث كل شيء يتحول إلى خبر ومعلومة سائلة في الميديا والأذهان حتى عندما ينتهي كوجود فيزيقي ويطويه العدم تظل الفكرة أو المعلومة عنه باقية .
إن المعرفة والمعلومات وتدفقها وسيولتها (مرونة معالجتها ونقلها وتبادلها وتحويلها من شكل لآخر ومن معلومة إلى صورة مجسدة "مادة" والعكس) هي السمة الفارقة للعصر الذي نعيشه ..والتي كثفت واختزلت كل السمات الأخرى .. وهي سمة كسرت إلى غير رجعة الكثير من القيود والحدود على المعرفة كما وكسرت أيضا احتكار الوسائل والمصادر التقليدية للمعرفة لها ..فلم تعد وسائل إنتاج وتبادل المعرفة هي ذات الوسائل كما لم تعد مظانها ومصادرها هي ذات المصادر والمظان .
ترى هل نبالغ لو قلنا أننا في عصر الآلة العارفة والآلة المفكرة بالتالي الآلة المعلم والآلة المدرسة والآلة الجامعة حيث لم تعد الآلة هي تلك الأداة البسيطة التي تنجز أو تعين الإنسان في انجاز مهام بعينها ويد الإنسان وعينه توجهها وترعاها ..بل أمام آلة تفكر وآلة تصنع قرارات وآلة حاسبة وآلة تعلم وآلة تعمر وتدمر وتقلع وتزرع وتجري العمليات الجراحية وتحفظ المعلومات وتستعيدها في الوقت المناسب وتوظفها بالشكل المناسب .. بل لا نبالغ إن قلنا أننا أمام آلة - في بعض الأعمال الخاصة والمعقدة - يصبح الإنسان هو ذاته آلة في يدها وهي التي توجهه وتستعين به لكي تؤدي أعمالها بحيث لا يستطيع أن يعمل إلا ويدها توجهه وترعاه.
ومعه فإن حجم التغيرات التي حدثت وتحدث تتم على شكل قفزات متراكمة كل طفرة إضعاف سابقتها وكل قفزة تحدِث تغييرات بكل الاتجاهات في حياة الإنسان كفرد وكمجتمع بما في ذلك أساليب الحياة ومنظوماتها المختلفة ثقافية وقيمية وروحية ...الخ.
وإن مجموع ما يستفيده الإنسان بشكل تلقائي وغير موجه من هذا الفضاء الحي الذي يعج بالمعرفة ومصادرها المختلفة ربما يفوق ما كان يحصل عليه بشكل موجه وعن طريق الكتاتيب (زمان) أو المدارس والجامعات والكليات اليوم .. ومعروف إن أي رقي بمستوى الحياة في عصر من العصور يكتسبه أو جزءا كبيرا منه إنسان ذلك العصر تلقائيا .. كما يكتسب الإنسان تسارع مركبة يكون بداخلها .. بمعنى إن إنسان العصر الحالي حتى الأمي منهم هو بمستوى من الوعي والمعرفة يضاهي أصحاب المؤهلات في عصور أخرى .
في ظرف كهذا تسقط أي دعوى بإلقاء تبعة رفع سوية التعليم على المتعلم بمطالبته بمجاميع عالية.. وتصبح الكرة في مرمى نظام التعليم ذاته أن يرتقي لمتطلبات العصر الذي نعيش فيه وان يمد الإنسان بمثل ما تمده به تلك الوسائل الحرة من وعي ومعرفة . وان يحسن استثمار هذا الفيض وهذا التطور الموجود لدى متعلمي عصرنا ..انطلاقا من نظرية مفادها أن الإنسان السوي والسليم في جهازه البدني والعصبي هو إنسان قابل لأن تصنع منه ما تشاء.
إن الرقي بمستوى التعليم يكون بالرقي بمستوى مؤسساته والبرامج التي تقدمها والأنظمة التي تحكمها والفلسفة التي توجه أهدافها وعقلية القائمين عليها ومستوى أعضاء هيئات التدريس فيها ليكونوا قادرين أن يصنعوا من الإنسان العادي إنسانا مؤهلا مدربا ومتعلما لا أن يستقطب لها المهرة في الحفظ والمذاكرة ثم يدعى بعد ذلك أن مخرجاتهم راقية .
ثم هو بجعل أبواب تلك المؤسسات مشرعة للجميع لكي ترقى بالمستوى العقلي والوجداني للأمة ككل .. وإذا كانت المؤسسة التعليمية مؤسسة تحمل هما وطنيا ولها رؤية ورسالة فإنها تكون قد أدت رسالتها بحق بقدر ما تكون أشاعت خدماتها لأكبر شريحة ممكنة من الناس الذين من حقهم الأكيد الاستفادة من تلك الخدمات طالما هم يساهمون من جيوبهم وأموالهم في ديمومتها .. وطالما حقق واحدهم الحد الأدنى من شروط للالتحاق بها ، آخذين بعين الاعتبار انه يدرس على نفقته ولا يشترط على الدولة تأمينه بوظيفة.. إن ما ينفقه في هذه الحالة على تعليمه وهو من كيسه الخاص يعد بنفس الوقت مساهمة منه في المجهود العقلي والمعرفي للأمة .. فلا اقل من أن تكون مساهمة الدولة أن تمنحه الفرصة.. إن الحياة العقلية والثقافية لشعب بأسره لا يقررها نفر من السوبرمان إذا كان المحيط حولهم أبكم أصم لكن إذا كان معظم الشعب متعلم ولو كانوا من ذوي المجامع المتوسطة فهذا في المعدل العام يجعل الشعب بمجمله حاصلا على مجموع 95% وهذا هو دور مؤسسات التعليم العالي أصلا ..بمعنى الارتفاع بمستوى الحياة العقلية للأمة ككل . فان يكون لدينا 90% أصحاء بصحة مقبولة أفضل من أن يكون لدنا 40% سوبرمان بصحة ممتازة والباقي شعب عليل.
إنه وفي ضوء تلك التغيرات العالمية في شتى الميادين.. ومن ضمنه الكم الهائل من المعرفة التي راكمها الإنسان والتطور التقني في أدوات ووسائل حفظها واسترجاعها فلا بد أن ينعكس على مفهوم التعليم وأهدافه والرسالة المتوخاة من مؤسساته بحيث لا يعود المعول عليه هو قياس كم المعلومات التي وعاها المتعلم (بمعنى الوعاء والحفظ هنا وليس الوعي ) بل الهدف هو قياس مستوى ومعدل التغير فيه كانسان بمجمله ومفهومه ووعيه وتمثله لقضايا وطنه وأمته والقضايا والأسئلة الإنسانية الكبرى وقدرته على اشتقاق واستنباط المعرفة ومحاكمتها عقليا بصورة صحيحة والبناء عليها ....الخ.
وتستغرب مثلا أن فلسفة العلم ومناهج البحث العلمي هي مادة هامشية في مناهج جامعاتنا حتى في مراحل الدراسات العليا حين أنها هي السنارة التي يصطاد بها السمكة فجامعاتنا تملأ حقيبة المتعلم بالسمك المعلب والمجمد .. لكنها لا تعطيه الشبكة وتعلمه كيف يصطاد طازجة.
وخريج مؤسسة التعليم لدينا والعالي منه بالذات - في علم من العلوم - يخرج ولديه كم من المعلومات يزيد أو ينقص بحسب قدرة وعائه الذهني على الحفظ .. لكنه ربما لا يتعلم كيف حصل او وصل من قدموا له تلك المعلومات عليها وما مدى شرعية الأدوات التي استخدموها لينتجوا تلك المعارف وبالتالي شرعية وصحة تلك المعارف ذاتها .. وكيف يستطيع هو أن يضيف لتلك المعلومات أو يطور ويصحح بما هو موجود منها ...بالتالي هي مؤسسات تنتج حفظة ودفاتر منسوخة لا علماء حتى لو تخرج بامتياز مع مرتبة الشرف ، لأنه في هذه الحالة قد حصل على امتياز بالحفظ أو احتواء المعرفة وليس امتياز في وعي ونقد المعرفة واشتقاقها والإضافة لها .
" قليل من المعلومات المعلبة.. وكثير من أدوات إنتاجها وأعداد منتجيها .. هي العبارة التي يمكن أن نلخص بها الرؤية الأمثل للنهوض بالتعليم.
ثمة حجة فد تتخذ ضد هذا الطرح وتتعلق بسوق العمل وبأننا إذا سهلنا إجراءات القبول فإننا سندفع لسوق العمل بأصحاب المعدلات والنتائج الضعيفة..وهي حجة ضعيفة بدورها .. فالعمل سوق له قواعده بدوره.. فليشترط أصحاب الأعمال الدقيقة المجاميع العالية إذا اعتقدوا أن لها دلالة ، وبالتالي فلن يضيرنا ان يكون لدينا في الجانب الآخر سائق تكسي أو نجار أو بائع خضار يحمل درجة جامعية ولو بتقدير ضعيف إذا كان للتقدير تلك الدلالة في تلك المهن مثلا أيضا.. وإلا فحرمان المواطن من حقه في التعليم العالي بذريعة حاجات العمل أو أية حجة سواها هو منطق لا منطق فيه..
تعقيد إجراءات التعليم بحجة رفع سويته التعليم هي حجة حق لا يراد بها حق وهي دليل ضعف في النظام التعليمي لا دليل قوة ومتانة .. فالنظم التعليمي القوي هو الذي يصنع من الإنسان العادي أو الضعيف إنسانا متعلما بسوية عالية .. ودائما الحرفية والتشدد تنشا عن الفهم الضيق والمحدود .. والأستاذ الضعيف تأتي أسئلته صعبة ويكون حرفيا في التصحيح ولا يعتمد طريقة الحل بل يعتمد النتيجة النهائية للحل ..وكأنه بذلك يغطي على ضعفه بالتشدد في الأسئلة والتصحيح وكأنما يلقي بتبعة ضعفه عل الطالب .. والطالب الذي لا يفهم الدرس يحفظه عن ظهر قلب حتى الأخطاء المطبعية أي انه يضطر بسبب عدم الفهم لأن يحفظ المادة حرفيا ولا يتصرف بها بخلاف من يستوعب الدرس فإنه لا يجد نفسه مضطرا لحفظ النص الحرفي لان هناك طرقا كثيرة تؤدي لذات المعنى ..
بمثل ذلك فإنه يبدو كما لو أننا لا نستطيع أن نرفع سوية التعليم من طرفنا كمؤسسة فنلقي بتبعاتها على المتعلم نفسه بتعقيد إجراءات القبول والتضييق فيها بحيث لا يقبل إلا الطلبة ذوي القدرة على حصد المجاميع العالية ليسدوا الثغرة الناشئة عن ضعف النظام التعليمي ذاته وارتباكه.
كل مواطن يريد أن يتعلم من كيسه الخاص ولا يشترط الوظيفة أو العمل فمن حقه الدستوري والقانوني أن يستفيد من تلك المؤسسات وان يصقل شخصيته ويعد ذاته للحياة ولا يوجد ما يبرر حرمانه لا التعسف.