يمضي الوقت بطيئا يتلكأ القلقُ في مساحات النهار الطويلة، ويؤسس لسهرٍ طويلٍ مع مغيب الشمس.
في البيت، حيث أنصب رايتي جوار المكتبة والتلفاز، أقرأ من الأخبار عاجلها، وأرى كيف يفتك الوباء بالغطرسة، ليعيد خارطة القوى كلها لضبط المصنع، سواسية لا فضل لأحد على أحد، سوى بوسائل الوقاية وأعداد أجهزة التنفس، ومساحات الكردورات في المستشفيات المترعة بصرعى الوباء.
أجد وقتا وفيراً، أحيانا كثيرة، في رحلات أقاصي البلاد على صهوة حروف الكتب، في الشاشات وهي تنقل تعابير وجوه الساسة الشاحبة، ملامحهم وقد علتها الضَعَة، فاختلجت عقولهم واضطربت الأولويات، واستذكر، في مشهد بؤسهم، كيف ملأوا الدنيا ضجيجا وصفاقة، ثم خسف الوباء بأمجادهم الواهنة بعد ان بغتهم الطوفان دون مقدمات، حيث لم يعد لهم من الأمر شيئا، فلا تواقيعهم العريضة أضحت دروعا، ولم يعد بإمكان المدمرات درء الهجمات.
وبينما يغذ الإضطراب السير نحو الشوارع التي ستمتلىء رعبا وجوعا وبطالة، يحملق رجال الأعمال في هاوية الاستثمار وضياعه، وفي أسواق المال السحيقة دون حول ولا قوة.
بتُّ أتابع، حيث مشى بي الحَجْرُ نحو تغييرٍ كامل في أولويات العمل وتفاصيل الحياة. أتنقّل في الوقت الطويل بين القراءة والمشاهدة والتراسل والتأمل.
أطالع مشهد العالم كله على مدار الساعة، وأستطردُ في التفاصيل، لأرى كيف باتت الولايات المتحدة تخشى الجوع والجريمة، وكيف ستنتهي الأزمة الناشبة بين حكام ولاياتها وبين الإدارة الفيدرالية في طرائق التصدي للوباء، وفي أولويات ضخ الحياة في شرايين الإقتصاد على حساب أعداد الإصابات والوفيات. إنه انقلاب كبير في هرم الحاجات، وفي الاتجاه نحو التديّن من كل أولئك الذين ما حفلوا يوما بدين ولا بعقيدة.
ليس ثمة ضوء في نهاية النفق. قد يحتاج أي لقاح للفايروس، عامين وربما اكثر. ولكم أن تطلقوا العنان للتخيّل كيف سيكون مشهد الإقتصاد والإستثمار، وكيف ستكون تراتبية الرفاهية والنشاطات المختلفة، بل ماذا سيفعل الوباء وقد أنشب مخالبه في افريقيا ودول اخرى، ونحن نقرأ تحذيرات برنامج الغذاء العالمي من أن تفشي كوفيد-19 قد يؤدي إلى زلازل مجتمعيه ومجاعات جماعية في بعض أجزاء العالم.
بيْدَ أن اللحظة الفارقة، هي ذاك التساؤل عن خلو الدول التي عاث فيها العالم فسادا تحت مظلات زائفة مختلقة، من الوباء بالكاد، فهل ثمة حكمة خفية بين أعداد صرعى الوباء وأرقام الضحايا في البلاد التي أنهكتها الحروب المفتعلة؟
في كل حال، يمضي الوقت بطيئا، عليّ هنا في أعالي الفحيص، وعلى عمر وزيد، في حجرهم القسري على ضفاف التايمز وقد انهك الوباء مفاصل الحياة هناك. ويا للسخرية، حين أقرأ نصّا ربما كتب على سبيل المزاح، من أن وفدا ايطاليا ناشد السلطات في الصومال، تمديد إقامتهم في نواحي مقديشو.
هل يحفل الطغاة الآن بالسياسة؟ لا تمنحهم الضربات الموجعة هذا الترف. لقد أثخنت جراحهم ولم يعد في أولوياتهم إحكام القبضة على حقوق الناس، هل كان الأمر صراعا خفيا على العالم بين الصين والولايات المتحدة، هل ثمة أسباب للوباء كانت جليّة أمام بيل غيتس وقد حذّر من وباء عالمي يخرج من الصين ليقتل الملايين في العالم؟ لا أستطيع التكهّن. في الحقيقة لا أحد يمكنه فعل ذلك.
في كل الأحوال، تمضي الأيام ببطء، هنا في المملكة حيث ما زالت السلطات تحكم القبضة على الوباء، غير أن الحكومة يجب أن تكون يقظة لكوابيس الإقتصاد، وأن ترى كيف ترتبك الدول ذات الإقتصاد المتين أمام الجائحة، وعليها أن تخرج من ثياب التردد والتوقع والإرتجال، للموازنة بين حصر الوباء وإعادة الحياة، ولا يعيبها أبدا الإستعانة بالخبراء والحكماء وذوي العقول الراجحة، وبالطبع، فإن ذلك لا يعني أبدا أن لا نقف احتراما لإجراءات الدولة الرفيعة، ونقدم الشكر والتحية.