تعتبر الجريمة ظاهرة اجتماعية لصيقة بالمجتمع تنبع منه وتحدث فيه , ولم تكن بمنأى عن التطورات التي شهدتها المجتمعات وهذا يستتبع القول أن على المجتمعات أن تتطور بالقدر الذي يسمح لها بمواجهة الجرائم المستحدثة وبالوسائل المناسبة لها , حيث لا تجدي الاجراءات التقليدية نفعاً بل تتطلب إجراءات توازيها في المضمون والوسائل .
وعلى الرغم من تجاهل دور الوسيلة الإجرامية – كعنصر قانوني يدخل في الجريمة- هذا التجاهل الذي طبع الفكر الجزائي بحجة أن المشرع لا تعنيه الوسيلة بقدر ما تعنيه الجريمة , لدرجة القول أن المشرع يساوي بين الوسائل باعتبارها ليست إلا أدوات يتبلور السلوك من خلالها , إلَا أن هذا القول لم يعد مقبولاً , ذلك أن هناك جرائم لا تتم إلا بوسيلة محددة أو مقيَدة كالجرائم التي تتم باستخدام المواد البيولوجية حيث يكون للوسيلة الإجرامية هنا دور لا يقل عن أدوار العناصر الأخرى ولا ينقص منها شيئاً في التشديد أو التخفيف من العقاب .
وتكتسب هذه الوسائل أهمية خاصة إذ يتوارى خلفها مبدأ الدفاع الشرعي الذي تقرر لمصلحة الضحية لحمايته من الجريمة , فكيف لمن
يقع ضحية مثل هذه الوسائل أن يمارس هذا الحق!
يضاف لما سبق أن جانباً غالباً من الفقه والقضاء يعوَل على الوسيلة لاستخلاص القصد الجرمي , فكيف للنيابة أو الضحية أن يثبتا خطورة فيروس معين بأنه قاتل بطبيعته شأنه شأن السلاح الناري ؟
وقد يكون اقتناء الوسيلة بحد ذاته جريمة , بالإضافة للكشف عن خطورة الجاني ونوازع الشر داخله.
أسئلة تباينت التشريعات في مواقفها إزاءها , فبعض التشريعات لم تنص على استخدام هذه الوسائل المقيَدة على قاعدة : تعددت الأسباب والموت واحد , ومن هذه التشريعات : التشريع التونسي والسوري واللبناني , وبعض التشريعات جعلت من القتل بالمواد الكيماوية أوالبيولوجية ظرفاً مشدداً للعقاب , ومثال ذلك التشريع العراقي , وبعض التشريعات جعلت من جريمة القتل بهذه الوسيلة جريمة ً خاصةً أو موصوفةً , حيث تعد الوسيلة هنا مقيَدة لارتكاب الجريمة كالتشريع الجزائري والمغربي .
أما التشريع الأردني وفي ما خلا قانون منع الإرهاب وقانون العقوبات فيما يتعلق بالجرائم الواقعة على أمن الدولة الداخلي بواسطة المواد البيولوجية – ونحن هنا لا نتحدث عن هذه الجريمة بوصفها جريمة إرهابية فقط – بل كجريمة يمكن أن تقع على الأشخاص , حيث لم يتعرض المشرع الأردني للوسائل البيولوجية - فيما نعلم – كطريقة لارتكاب الجرائم إلا في المادة 22/ب من قانون الصحة العامة الأردني , والمادة (301/1/ب) وفي ذات المادة في الفقرة (2/ ب) من قانون العقوبات الأردني فيما يتعلق بجرائم الاعتداء على العرض , حيث اعتبر المشرع إصابة المعتدى عليه بمرض جنسي أو بمرض نقص المناعة المكتسب مع علم المعتدي بإصابته بهذا المرض هو أحد ظروف التشديد , وغنيٌ عن البيان أن هذه الجرائم هي جرائم بيولوجية لا تقع إلا بوسيلة مقيدة .
إن هذا المسلك للمشرع الأردني يعد بدايةً محمودةً إلا أنها ما زالت قاصرة , حيث أصبحت العوامل البيولوجية والمصابون بها قنابل متحركة مقارنة بالأسلحة الأخرى ولو كانت هذه مما تصنف بأسلحة الدمار الشامل , حيث تبقى قدرتها محصورة ضمن نطاق مكاني محدد , ولا أدلّ على ما سبق مما نحن فيه من جائحة كورونا التي ابتدأت بالصين واجتاحت العالم بأقصر مما كان متوقعاً , يضاف لما سبق أن هذه العوامل البيولوجية لا تحتاج إلى روافع وتجهيزات فهي قليلة الكلف سهلة التنفيذ , كما أنها أقل تعقيداً من حيث الإنتاج , لذا يمكن أن نطلق عليها وصف قنبلة الفقراء .
إذاً يتبدى لنا بوضوح أهمية التصدي لهذه الجريمة بهدف منع تحول العوامل البيولوجية لتهديدات سواء على مستوى الجرائم التي تقع على الأشخاص أو أمن الدولة البيولوجي وسواء على الصعيد الوطني أو الدولي , وباعتبار هذه الجريمة من الجرائم المستحدثة التي تهدد أمن المجتمعات نتيجة تطور التكنولوجيا وإمكانية إساءة استخدامها وزيادة العوامل البيولوجية وسهولة انتقالها .
يتطلب وضع Bio-securityإن التخطيط الرشيد للمحافظة على الأمن البيولوجي للأفراد والمجتمع استراتيجية وطنية لهذا الخصوص من خلال المسارات المقترحة التالية :
أ - وضع التشريعات والنظم لاستكمال إعداد مشروع قانون للأمن البيولوجي والذي يسهم في تعزيز المنظومة التشريعية القائمة ويحدد الضوابط والمعايير اللازمة لتداول العوامل البيولوجية والتعامل معها وتجريم الأنشطة والتصرفات التي تخالف قواعدها .
وحيث وضع المشرع الأردني نظام رقم (29) لسنة 2019 الصادر بالاستناد إلى قانون الصحة العامة , والمعني بتأسيس لجنة وطنية للأمن والسلامة البيولوجية يرأسها وزير الصحة بحيث تكون مسؤولة عن تنسيق الجهود الوطنية المتعلقة بالأمن والسلامة البيولوجية , لكن هذا النظام واللجنة حديثا عهد بحاجة إلى تفعيل لعل هذا أوانه .
ب – تعزيز القدرات المادية والبشرية لرصد العوامل البيولوجية والكشف عنها ومراقبة حركتها من خلال رفد المنافذ الحدودية بالمعدات والأجهزة والبرامج المتطورة وتأهيل العاملين لهذا الغرض .
ج – إنشاء منصة إلكترونية موحدة تربط بالمركز الوطني للأمن وإدارة الأزمات للإبلاغ المبكر عن أي خرق للأمن البيولوجي بما يسهم في سرعة التعامل مع هذا النوع من البلاغات وبهدف تبادل المعلومات التكاملي بين الجهات ذات العلاقة للتنسيق فيما بينها من جهة , وإتاحتها لمتخذي القرار بصورة تضمن سرعة الاستجابة وبما يعزز القدرة على السيطرة من جهة أخرى .
د – وضع قاعدة بيانات موحدة للمرضى الذين يمكن أن تكون حالاتهم تشكل خطراً بيولوجياً مع ضرورة حماية هذه البيانات وبما يكفل خصوصيتها وسريتها سيما في أوقات الأزمات وذلك بإدراجها ضمن البيانات المحمية بموجب قانون الأمن السيبراني , حيث تفتح هذه البيانات المجال لمتابعة السجلات الصحية للمرضى وحالاتهم الطبية ومدى التقدم الحاصل فيها .
هـ - تطبيق اللوائح الصحية الدولية لمواجهة تحديات الأمن البيولوجي والتي تم تبنيها من قبل منظمة الصحة العالمية ومنها واجب الإخطار السريع ومشاركة المعلومات المتعلقة بالأوبئة بين الدول .