لا يمكن لأُمَّة ما أن تعيش وتستمر في هذا الوجود، إن لم تستطع التعلم مِن تجاربها (أو تجارب الآخرين)، أو لم تستطع التأقلم مع كل حالة طارئة تَمُر بها (أو تُفرَض عليها)، وما دون ذلك؛ فـ (التبعية) هي الملاذ الأوحد، و (الدونية) هي الشعور الذي لا مفر منه ! .
المنطق والواقع يقولان أن أُسس استمرارية الحياة تعتمد على مقدار ما تحتويه سلَّة الغذاء التي تمتلكها في بيتك (أو موطنك)، وتعتمد كذلك على مقدار ما تستطيع تصنيعه مِن سلع وأدوات أساسية تتمكن بواسطتها مِن الاستمرارية في حياتك بيسر وسهولة، وتعتمد أيضاً على مُتممات ذلك مِن خلال القدرة على توفير الدواء اللازم لإعطاء الجسم القدرة على ما يعتريه مِن وهَن .
حين تمّ إعلان الحظر مِن قبل الحكومة، للحد مِن تفشي فايروس كورونا، لم يتهافت الناس على معارض بيع السيارات أو مواد البناء أو الخلويات، وما إلى ذلك مِن أماكن بيع السلع الثانوية التي (مِن الممكن) الاستغناء عنها لفترة طويلة بأريحية ويُسر؛ بل كان التهافت على المخابز في المقام الأول ومِن ثم محال بيع أساسيات الحياة الأُخرى، كالأرز والسكر ومشتقات الألبان، وما إلى ذلك مِن السلع الأساسية التي (لا يمكن) الاستغناء عنها أبداً .
إذن، فالمنطق يفرض علينا أن نهتم بالمحافظة على ديمومة أساسيات الحياة والوجود، لنستطيع الاستمرار والعيش بكرامة دون الرضوخ لشروط المُصدِّر لتلك الأساسيات، وتَمَنُّنِه بها علينا؛ طالما لدينا القدرة على تأمين ما يمكن تأمينه منها؛ مِن خلال زرع المحاصيل الضرورية والأساسية؛ كالقمح مثلاً، فنحن نستورد قُرابة (مليون) طن مِن القمح سنوياً، بالوقت الذي يبلغ انتاجنا منه (في أحسن الظروف) ما لا يزيد عن (60) الف طن سنوياً ..!! مما يعني أننا لا نستطيع الاستمرار لأكثر مِن (شهر) واحد في إطار القدرة الذاتية على الانتاج؛ إذا ما عرفنا أن الكمية اليومية المطلوبة مِن مادة دقيق القمح تقارب (2700) طن، لغاية إنتاج رغيف الخبز اليومي لسكان المملكة كافة (الأرقام حسب التقديرات الرسمية لها)، وهذا يعني أننا سنبقى ما لا يقل عن أحد عشر شهراً معتمدين على عامل الاستيراد مِن هذه المادة، الأمر الذي يعني أن أساس حياتنا ووجودنا بأَيدٍ خارجية لن تتردد لحظة واحده أن تمنعه عَنَّا إذا ما اجبرتهم ظروفهم الاقتصادية على ذلك ..!! سيما وإن اقتصاد هذه الدول قائم بمجمله على مبدأ (النُدرَة)؛ أي (نُدرة الموارد) لمحاولة التوفيق بين ما هو معروض منها، وبين حاجات ورغبات الناس إليها، الأمر الذي سيؤدي لنفادها مع مرور الوقت، وبالتالي؛ فإن اقتصادهم سيكون محكوماً بأَقلَمَة نفسه مع الواقع، وبمعنى آخر؛ فإن الذي يأتينا اليوم بالمجان على شكل (مِنَح)، فإنه (إن أتانا مستقبلاً) فإنه سيأتي مقابل ثمنه (شئنا ذلك أم أبينا) ..!! بالوقت الذي نملك فيه الكثير مِن الخيارات الأُخرى لتلافي مثل هذا الخيار .
لا شك أن تَغيُر الثقافة المجتمعية وتحولها نحو زراعة الأشجار المثمرة، أو التشبث بالوظيفة الحكومية، أو تفتت ملكية الأراضي، وما إلى ذلك مِن أسباب أدّت لعزوف فئة كبيرة مِن مجتمعنا عن هذا النوع مِن الإنتاج، إلَّا أن هذا لا يمنعنا مِن وضع خطة استراتيجية طويلة المدى (عشرينية مثلاً) غايتها العمل على تغيير الكثير مِن الثقافات والأفكار والاتجاهات التي غزتنا في عُقر دارنا، ومنها هجرة الأرض والانجرار نحو المجهول، فلا يوجد ما يمنع مِن دعم هذه الفئة مِن المزارعين (زيادة على الدعم الممنوح لهم) بحيث يتم توسيع رقعة الأرض المنتجة لهذه المادة، لتتحمل الحكومة فيما بعد الجزء الأكبر مِن تكاليف الإنتاج، ومِن ثم شرائه بسعر يحقق ربحاً مجزياً للمزارع، ومخزوناً استراتيجياً للوطن بأكمله، إلى أن تعود سهول حوران وحسبان والبادية الشمالية والوسطى والجنوبية وسهول البلقاء والكرك كما كانت قبل أقل مِن (50) سنة خَلَت، حين كنّا نسير بين الزروع؛ فلا نُرى مِن عُلُو هامات السنابل فيها .
إن الاتجاه للأرض وزراعتها بشتّى المحاصيل (خاصة القمح والشعير والحبوب) يعني بشكل آخر استمرارية الدورة الاقتصادية لقطاعات أُخرى، كالمواشي والدواجن مثلاً، فما يُستخلَص مِن بقايا محاصيل البقوليات والسنابل؛ سيصبح علفاً للمواشي والدواجن، الأمر الذي يساهم بدعم هذه القطاعات؛ فتتوفر تبعاً لذلك اللحوم الحمراء والبيضاء وبيض المائدة بشكل أفضل وأوفر مِن ذي قبل، ناهيك عن الاهتمام بمقومات الحياة الأُخرى، كالخضار والفواكه بشكل نتجنب فيه التخبط في الإنتاج، فيضيع ما ننتجه دون الاستغلال الأمثل له .
لدي يقين دائماً بأننا نستطيع فِعل الكثير، (إن أردنا ذلك)، فلدينا العقول والعزائم والقيادة الداعمة
لكل ما فيه الخير لهذا الوطن ومَن يتفيأ تحت ظلاله، فلا ينقصنا إلَّا أن نثق بأنفسنا وبعقولنا، ومِن ثم نسير بعون الله ورعايته إن شاء الله .