تجمع الآلاف الاميركيين السود الغاضبين في نهاية شهر كانون الثاني عام الف وتسعمئة وستة وخمسين يعاينون بحزن ومرارة ماتبقى من بيت الدكتور مارتن لوثر كينغ بعد ان القت عصابات الكوكلانز قنبلة حارقة كادت ان تودي بحياة زوجته وابنتيه اللتين كانتا داخل البيت. اما كينغ الذي كان عائدا للتو من اجتماع لمقاطعة باصات مدينة "مونتيغمري" في ولاية آلاباما، فقد حافظ على رباطة جأشه وتوازنه وبصوت حازم خاطب الجموع الغاضبة والمهيأة لاعلان "الثورة المسلحة" وتمزيق اوصال المدينة قائلا... اياكم والعنف... احبوا اعدائكم كأنفسكم وفيما كان صمت الجموع مطبقا، انسل صوت من بينهم معلنا ان الله معنا، وردد الجميع آمين.

اثبت الدكتور مارتن لوثر كينغ زعامة فريدة ومميزة طيلة عام كامل من مقاطعة الاميركيين السود لباصات المدينة لتميزها الصارخ ضدهم، وكانت تلك المقاطعة نقطة التحول في بداية حركة الحقوق المدنية التي رسخت ليلة الثلاثين من كانون ثاني عام 1956 مبادئها الاساسية.

ولد مارتن لوثر كينغ في الخامس عشر من شهر كانون ثاني عام الف وتسعمئة وتسعة وعشرين لعائلة متدينة، حيث كان جده لابيه راعيا لكنيسة معمدانية في اتلانتا في ولاية جورجيا، وفي عام الف وتسعمئة وواحد وثلاثين اي حين وفاة الجد اصبح والده قسيسا للكنيسة نفسها في حين كان مارتن لوثر كينغ يساعد والده القس في خدمة الرعية.

نشأ كينغ في اجواء ملبدة بالعنف والاضطهاد والتمييز وانتهاك حقوق السود الاميركيين واحيانا كثيرة استمرارية استعبادهم.

التحق كينغ بمدرسة حكومية مخصصة للسود فقط وتخرج منها في سن الخامسة عشرة وفي عام الف وتسعمئة وثمانية واربعين حصل على شهادة البكالوريوس من كلية "مورهاوس" التي تعد احدى اهم كليات الدراسات اللاهوتية في جورجيا. وبعد ان امضى ثلاث سنوات في دراسة اللاهوت في معهد "كروزر" في بنسلفانيا حصل على درجة بي دي عام 1951، والتحق مباشرة بجامعة بوسطن منهيا رسالة الدكتوراه عام الف وتسعمئة وخمسة وخمسين. وفي بوسطن تعرف مارتن لوثر كينغ على كوريتا سكوت وتزوجها وانجبا ولدين وابنتين.

في عام الف وتسعمئة واربعة وخمسين اصبح مارتن لوثر كينغ راعيا لكنيسة "دكستر" المعمدانية في مونتيغمري "آلاباما"، وانضم حينها الى اللجنة التنفيذية للجمعية الوطنية لمنفعة المواطنين السود. كان مدافعا شرسا عن حقوق السود الاميركيين وبعد اقل من عام تسلم زعامة اول حركة للمسيرات المناهظة للعنف والتي استهلت نشاطها بحملة مركزة قاطعت استخدام الاميركيين السود لوسائل المواصلات "الباصات". لكن الحملة التي دامت ثلاثمئة واثنين وثمانين يوما، انتهت بقرار قاطع لمحكمة العدل العليا الاميركية عام الف وتسعمئة وستة وخمسين اعلنت فيه عدم دستورية وشرعية القوانين الداعية الى سياسة الفصل العنصري بين البيض والسود اثناء استخدام وسائل المواصلات. ومنذ ذلك التاريخ اصبح كينغ الزعيم الاميركي الاسود الوحيد بلا منازع.

انتخب كينغ رئيسا لـ "مؤتمر زعماء المسيحيين الجنوبيين" وهي منظمة انبثقت كقيادة جديدة لحركة الحقوق المدنية. تنقل في جميع الولايات الاميركية والقى مئات الخطب التي ركزت على "رفض العنف والظلم"، والدعوة الى المحبة والعدالة والسلام. كتب مئات المقالات في الصحف والمجلات الاميركية ونال العديد من درجات الشرف من جامعات ومعاهد تعليمية اميركية مرموقة. احتلت صورته غلاف مجلة التايمز الاميركية كأول زعيم اميركي اسود تختاره المجلة "رجل العام" عام ثلاثة وستين. واصبح الزعيم الرمز لكل المطالبين بنبذ العنف والدعوة الى العدالة في جميع المجتمعات البشرية. لم يكن قد تجاوز بعد سن الخامسة والعشرين حين نال جائزة نوبل للسلام. كان كينغ اصغر شخصية عالمية تنال اعظم جائزة في العالم على الاطلاق وحين علم بنبأ اختياره تبرع بالجانب المالي منها وهو مايقدر باربعة وخمسين الف دولار لدعم حركة الحقوق المدنية.

في الثامن والعشرين من آب عام ثلاثة وتسعين تجمع مايزيد على مئة الف اميركي امام النصب التذكاري للرئيس ابراهام لنكولن في العاصمة واشنطن لاحياء الذكرى السنوية الثلاثين لمسيرة "آلاباما" الى واشنطن التي قادها الدكتور كينغ عام 1963، تلك المسيرة التي جمعت السود والبيض من جميع الطبقات والاعمار والاديان ساروا جميعا بثقة وأمل ممسكين بايادي بعضهم البعض مرددين معا "سوف نجتاز المحن" معبرين عن ايمانهم بان العدالة والمساواة والحق امام القانون لجميع الاميركيين قادمة لا محالة.

كانت تلك المسيرة الاعظم في تاريخ العلاقة بين البيض والسود، فقد تسمر الملايين حول العالم امام شاشات التلفزة يشاهدون وجه داعية الحقوق المدنية التي اخترق صوته افئدتهم وعقولهم، مستهلا خطابه الشهير بعبارة "انا لدي حلم".

حين توجهت مسيرة "آلاباما" الى العاصمة واشنطن قبل سبعة واربعين عاما كان جميع اعضاء الكونغرس الخمسمئة وخمسة وثلاثون من نواب وشيوخ من الاميركيين البيض، وكان الناشط الاميركي الاسود "جان لويس" رفيق مارتن لوثر كينغ اصغر المتحدثين في تلك المسيرة.

بعد نصف قرن من الزمن ومن "آلاباما" التي دوت منها صرخة الدكتور كينغ معلنا "حلمه العالمي" تلك الصرخة التي اخترقت الحواجز وغرست بذور التغيير في افئدة وعقول الاميركيين بيضا وسودا بدأت منها مسيرة الكفاح والامل والنجاح. النجاح الذي اوصل اثنين واربعين اميركيا اسود من بينهم جان لويس الى عضوية الكونغرس او الى حاكمية العديد من الولايات ورئاسة اكثر من خمسمئة "بلدية" في مدن الولايات الخمسين ورئاسة الجامعات والمؤسسات وآلاف القضاة وكبار المسؤولين على جميع المستويات الفيدرالية والمحلية وصولا الى من ولد وترعرع مؤمنا بمبادئ وطموحات واحلام الدكتور مارتن لوثر كينغ، الاميركي الاسود باراك حسين اوباما الذي حقق الحلم الاميركي بامتياز بعد ان اصبح اول اميركي اسود رئيسا لاعظم دولة في العالم…

Williams@myacc.org