تراشق الاتهامات بين واشنطن وبكين في زمن الكورونا
المحامي ناصر السعدي
06-04-2020 05:57 PM
يقول كثيرون من الساسة والدارين بالشأن السياسي أن العالم ما قبل كورنا لن يكون كما بعده، وإذا ما أسقطنا هذا الوباء العالمي على مشهد تصاعد الخلاف والاتهامات المتبادلة بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، نكتشف أن جذور الخلاف ليس وليدة اللحظة ولا حتى وليدة اعتلاء ترامب مقاليد السلطة في واشطن، ولا بد أن نغوص أكثر في تعقيدات العلاقة التي بدأت عندما فكرت الصين أن تنهض - حيث أن الصين ليست كباقي الدول بما تمتاز به من مساحة وتعداد سكاني هائل ولا نُغفل هنا القدر الجغرافي التي تتمتع به، ويجدر بنا هنا القول أنه من حق واشطن أن تخشى على مكانتها بين الأمم لدى حضور هكذا خصم.
المُلفت أن مستويات الصراع بين الدولتين وصيرورتهما التاريخية كانت خفيةً بعض الشيء ، وبدأت بوادرها جليةً من اليوم الأول لدخول السيد ترامب البيت الأبيض ، ومن حينها باشرت إدارته بإعداد صيغ القوانين الجُمركية والضربية الهادفة إلى رفع تلك الرسوم على السلع والخدمات الصينية الواردة للبلاد ، وكما هو معلوم أن الولايات المتحدة الأمريكية هي من كبرى الأسواق للسلع والخدمات على مستوى العالم ، وبنظرة إلى إجمالي التبادل التجاري بين البلدين الذي يناهز 737 مليار دولار - حصة الولايات المتحدة الأمريكية هي فقط 179 مليار دولار ، وهو حجم صادراتها للصين ، بالمقابل حجم صادرات الصين إلى الولايات المتحدة الأمريكية من بضائع وخدمات ما يقارب من 558 مليار دولار ، وعليه وبحسبة بسيطة يَظهر أن الميزان التجاري يميل لصالح الصين بما يتجاوز 378 مليار دولار .
ولم تقف الصين مكتوفة الأيدي ؛ بل قامت بإجراءات انتقامية من خلال رفع الرسوم والتعرفة الجمركية بحق بعض الورادت الأمريكية ، ومما لا شك فيه أن الحروب المتصاعدة الدائرة في رفع التعرفة الجمركية والضربية تعود بالضرر الكبير على كلتيهما ، مع التأكيد على أن الصين هي المتضرر الأكبر وذلك نظراً لحجم صادراتها الذي يفوق حجم واردتها من الولايات المتحدة الأمريكية ، علماً أن تاثيرات هذه الحرب الاقتصادية لها الأثر المُوجع أيضا على الداخل الأمريكي من حيث حجم المتضررين إزاء رفع التعرفة الجمركية في شِقَّي الأطلنطي ، كيف لا وهناك قطاعات كبيرة من العمالة ورجال الأعمال في السوق الأمريكي يعملون ضمن مُعادلة التبادل التجاري مع هذه الدولة ؛ ناهيك عن وجود قطاعات متوسطي ومتدني الدخل من الشعب الامريكي ، والذين هم بأمس الحاجة إلى السلع والخدمات الصينية قليلة التكلفة (الرخيصة ) .
إن الصراع بين الدولتيين - واللتان تُعدَّان أكبر اقتصاديات العالم قاطبة في أساسه - صراعاً على تَسَيُّد العالم ، حيث أن واشنطن تستشعر الخطر من النهوض الصيني السريع في العقدين الأخيرين ؛ لا بل تسعى بكل طاقاتها في إطالة أمد بقائها كمتسيدةً لهذا العالم ، وفي المقابل فإن غريمتها الصين تسير بِخُطىً حثيثةً إلى منازعتها شرُف هذا المركز .
إلّا أن اللافت أن الصين لم تختار طريق التسليح العسكري المتقدم وبناء القدرات العسكرية لجيشها ودخول عالم سوق السلاح في بداية عهدها النهضوي ، وذلك لغايات الوقوف بين الكبار في هذا العالم ؛ بل اختارت الدخول من باب الاقتصاد وتطوير الصناعات الإنتاجية الاستهلاكية لتدعيم النمو وتحويل الشعب الذي كان في معظمه من الفلاحين إلى مجتمع صناعي حرفي ومنهم من رجال الأعمال وقسم آخر موظفين مؤهلين في تقديم الخدمات في كل المجالات الحيوية ، حيث غزت صناعاتهم - من سلع وخدمات - قارات العالم ، وهنا نحتاج إلى التأمل في حقيقة أن النمو الحاصل كان نقلة نوعية استشعره الشعب الصيني و من الواجب أن لا ننسى في هذا المقام حجم السكان الهائل لهذا البلد والذي يناهز 1.4 مليار نسمة ، وبذات الوقت فقد كان في ذهن بكين على ما يبدو أن هذا النهوض يجب أن يشمل في مراحل متقدمة الدخول في عالم تطوير الصناعات العسكرية، وعليه فقد حققت الكثير من التقدم والاختراقات ، وها هي تنتج حاملات الطائرات ودخلت إلى خدمة أحدها ، وكذلك الطائرات العسكرية النفاذة وغيرها من القطع البرية ( الصواريخ والمدرعات ) .
ونجحت الصين حتى اللحظة في ضبط إيقاع نهوضها ، وقال الكثير من فلاسفة السياسة في هذا الاستقرار وقد عزا الكثيرون أن الصين اعتمدت على الدولة المركزية القوية ، وكان من روَّاد هذا التوجه الزعيم الصيني تشين شي خوانغ الذي وحَّد الصين عام 221 ميلادي ، ويَعتقد آخرون بوصف هذا النهوض أنه يأخذ مبدأ التدرُّج وليس بنظرية الصدمة التي تتبناها الدول الغربية ، وقد وذهبت بكين بعيداً قي اتباع مبدأ عدم التباهي بهذا التقدم ؛ لا بل هي لا ترغب في البوح رسمياً عن هذا النهوض ولا تزال تصف نفسها بأنها دولة نامية .
ومن جانب آخر للصين ؛ فقد خلقت فلسفة اقتصادية فريدة وهي اقتصاد السوق الذي يحكمه النظام الإشتراكي في بكينوالذي هو نظام اقتصادي مختلط بشكل أو بآخر مع ترك بعض المؤسسات الحيوية بيد الدولة ، ويدَّعي الصينيون أنهم ينهجون مبدأ ترجيح مصلحة الشعب ، أي توجه لتحسين معيشة الفرد ، وقال عنه الرئيس الصيني شي جين بينغ بالاقتصاد الإنساني" انتهى الاقتباس وهو يميل إلى الاقتصاد الاجتماعي .
قد يختلاف الكثيرون مع السياسات الصينية في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات العامة ؛ إلا أن التجربة الصينية جديرة بالدراسة ، ولا يغيب أن الصين وشعبها يمتلكان إرداة صلبة للنهوض والتغير ، وقد نرى في المستقبل الكثير من التصعيد والقليل من التهدئة بين هاذين العملاقين .