الرزاز واعظا: كُلّ مُرٍّ سيمرّ
د. محمد عبيد الله
04-04-2020 07:06 PM
من فصول الفرج بعد الشدّة: عن لوحة الوزير السابق (أبو رمّان) والنشيد السّلفي
جرت على لسان دولة د.عمر الرزاز رئيس مجلس الوزراء الأردني، ووزير الدفاع، جملة شعرية وعظية تمثّل بها في حديثه عن وضع البلاد تحت تأثير جائحة (كورونا) لأحد البرامج الإخبارية في التلفزيون الأردني، مشيرا في سياق الحديث إلى تفاعله مع لوحة أهداها له خطّاط شابّ، وهي العبارة التي عنونت بها وسائل الإعلام إطلالة الدكتور الرزاز تلك: "كلّ مُرّ سيمرّ". وكشف وزير الثقافة السابق د.محمد أبو رمان تفصيلا حولها مدعّماً بصورة تجمع الرزاز بالوزير د.أبو رمان، والخطاط الشاب مجد عبد الوهاب الذي أهداه لوحة الخطّ تلك، كما نشر أبو رمان أبياتا أخرى من المقطوعة الشعرية التي اقتبُست منها الجملة المفتاحية (كلّ مرّ سيمرّ).
وقد دفعنا شيء من الفضول الأدبي إلى البحث عن أصل هذه الجملة وفصلها، وتساءلنا عن قائلها، فالمؤكّد أن الخطاط اقتبسها من القصيدة التي ذكرها د.أبو رمان، ولكن لمن تلك القصيدة؟ وفي أية بيئة قيلت؟ وكيف هاجرت حتى وصلت دولة د.عمر الرزاز؟ فتمثل بها في لقاء موجّه إلى عموم المواطنين على شاشة القناة الأردنية الرسمية. تلك أمور قد يكون البحث فيها مسلّياً ونحن تحت تأثير الإقامة الجبرية في البيوت بسبب فيروس (كورونا) الخبيث.
وقد أفادنا البحث عبر الشبكة العنكبوتية أنها وردت عنوانا وجملة افتتاحية في أنشودة دينية لمنشد يمني يدعى (زيد الزيدي)، من نمط النشيد الديني الذي يعتمد على الأداء الصوتي غير المصحوب بالموسيقى، لأسباب تتصل بتحرّج المتدينين السلفيين من الموسيقى، وهو نمط ما زال حاضرا، في بعض البيئات الدينية المتشدّدة، وتجري أبيات الأنشودة على النحو الآتي، كما أداها هذا المنشد:
كل مرٍّ سيمرُّ ليس للدنيا مَقَرّ
والذي أنت عليه كلّه خيرٌ وشرُّ
سوف يبنيك حطامٌ وترى حالا يسُرُّ
ثق بعون الله مهما طال في دربك عسْرُ
فلهيب الجرح يخبو عن قريب، لا يضرّ
وليالي الحزن في الآخر يمحوهن فجر
والأبيات التي وردت في إيضاح د.أبو رمان هي بعض أبيات مقطوعة زيد الزيدي المنشد الديني اليمني، الذي نرجّح أنه أول من غنّى هذه الأنشودة، وربما كانت من كلماته، أو كلمات شاعر مجهول ينتمي إلى بيئته الدينية السلفية نفسها.
المقطوعة الشعرية، من مجزوء الرَّمَل، (رمل الأبحر ترويه الثقاتُ فاعلاتن فاعلاتن) وهو وزن صافٍ معروف بإيقاعيته وغنائيته، يتّسع للمسة عاطفية، قد تُشيع الفرح أو الحزن، وهي هنا لمسة حزينة، أقرب إلى الزهد والوعظ، والتأمل الوادع في تقلّبات الحياة، بحيث تقبل النفس ما يطرأ عليها من تبدّل، وتتقبل العسر إذ تتطلع إلى ما قد يتبعه من الفرج.
الموضع الثاني لورود هذه العبارة يتمثل في قصيدة ليحيى بن علي الضامري، وهو شاعر وخطيب ومدرّس يمني، ينمّ شعره القليل الموزّع على صفحات بعض المجلات والمواقع الإلكترونية عن ثقافة وتربية دينية تميلان إلى الوعظ والاعتبار والتسليم، وقد أسهم إنشاد القارئ والمنشد اليمني (ياسر الزيلعي) في إشهار قصيدة الضامري، فقد أدّاها بطريقة النشيد الديني الخالي من الموسيقى على طريقة الإنشاد السلفي المعروفة.
واختتمت القصيدة بالحكمة- الشعار نفسه: (كل مُرّ سيمرّ)، وقد يكون الضامري قد تفاعل مع أنشودة الزيدي، وأنشأ على وزنها ورويّها قصيدته أو أنشودته، واقتبس منها جملتها الأولى لتغدو شعارا ختاميا في قصيدته أو أنشودته. أما قصيدة يحيى الضامري فتجري على النحو الآتي:
إن أتاك اليوم ضُرّ أو أذاب الحَلْق مُرُّ
أو نأى عنك حبيب واحتوى جنبيك عسر
علّل النفس بصبرٍ فعسى يُكتب أجْر
قل لها يا نفس صبرا بعد هذا العسر يسرُ
هذه الأيام تمضي هل تراها تستقر
إن أتانا زمهرير فغداً يُقبل حَرّ
لو أتانا اليوم خيرٌ إنّ قبل الخير شرّ
أو مضى في الدرب عبدٌ سوف يمضي فيه حُرّ
كم بأطلالٍ وقفنا أهلها كانوا ومرّوا
فاجعل الدهر شعاراً: كلّ مُرٍّ سيمُرّ
وهو في البيت الأخير يعظ الإنسان ليتخذ لنفسه شعارا باقيا طوال الدهر: كل مُرّ سيمُر، والمرّ هنا كناية واضحة عن مرارة العيش أو الحياة، وعما يعرض فيها من عسر وضيق في بعض المراحل، مثل مرحلة أزمة كورونا الحالية. والمرّ (مع مرادفاته: العسر، والضيق، والأزمة، والشدّة...) لن يستمر أو يبقى، وإنما سيذهب ويأتي الفرج! هذا ما تقوله لنا هذه الموعظة، وهذا تقريبا ما راق للرزاز فوعظنا به!!
وتحاكي هذه الروح الوعظية نسقاً مضمراً في الثقافة العربية الإسلامية تمتد جذوره إلى الآية الكريمة في سورة الشرح: (إن مع العسر يسرا). ولطالما عبّرت العرب في حكمها وأمثالها عن المعنى نفسه بأشعار وعبارات من نحو:
(ما بعد الضيق إلا الفرج)
وقول الشاعر:
اشتدّي أزمةُ تنفرجي قد آذن ليلك بالبلجِ
وبيت الشعر المشهور:
فلما استحكمت حلقاتها فُرِجت، وكنت أظنها لا تفرجُ
وفي مصنفات الموروث كتاب (الفرج بعد الشدة) لابن أبي الدنيا (ت281هــ) وهو من جذور السلفية الوعظية، وبالاسم نفسه كتاب قصصي للقاضي المحسّن بن علي التنوخي (ت384هــ)، ولكن التنوخي خفف الروح الوعظية المباشرة، لصالح الجانب الأدبي القصصي، فقدّم الوعظ بقالب سردي ممتع.
هذا هو في تفسيرنا أصل هذه الجملة (الرزازية)، فهي تنتمي دون لبس إلى الثقافة الوعظية السلفية والغنائية الدينية المعاصرة، وهي ثقافة تذكّرنا بتخصّص د.محمد أبو رمان، ومتابعته لشؤون الجماعات الإسلامية، ومنها السلفية بصورها المختلفة، ونرجّح معرفته بأصول القصيدة ومنبتها السلفي، ولكنه سكت عنها مكتفيا بالإشارة إلى لوحة الخط العربي!!
قد نقرأ بين السطور جانبا من ثقافة الرزاز وجدّيته وأنه يأخذ الفنون والآداب على محمل الجدّ، فلم يكن تفاعله مع أحد معارض الخط العربي عابرا، وإنما تجاوز ذلك إلى قدر من العمق، بحيث غدت إحدى لوحات ذلك المعرض ملهمة له يجد في عبارتها وجمالية خطها ما يستحق أن يُقتبس، ويعلّق على جدار مكتبه المنزلي، ونحن عادة لا نحتفي على جدران بيوتنا إلا بما يمسّ جانبا منا، حتى لو كان خفيّا مستتراً. وقد يمتد بنا الشطح فنتذكر صوفية شقيقه الروائي والكاتب الراحل (مؤنس الرزاز) التي كانت محاولة للخلاص في بعض مراحل حياته، فنستنتج أن الرزاز عمر، قد لامس خيطا من خيوط مؤنس القديمة بهذا التناص مع صوفيته وبحثه عن الخلاص ورؤيته الزاهدة الواعظة المنصرفة عن شؤون الدنيا. وقد نشطح أكثر فنرى في عبارة أخرى استعملها في اللقاء نفسه (سباق المسافات الطويلة) ما يذكّر بعنوان إحدى روايات الراحل عبد الرحمن منيف التي حملت العنوان نفسه.
أخيرا: هل ينم هذا الاستشهاد بهذه اللمسة الشعرية الواعظة عن أن دولة الرزاز رئيس الورزاء قد استنفد خططه ولم يبق إلا الوعظ؟! أم هي ظروف البلاد في هذه المرحلة المرّة.. الشاقة.. ألجأته قصدا أو عفوا إلى جملة من نشيد ديني سلفي!!