كنت طفلا في العاشرة من العمر العب ألهو مع أطفال آخرين .. ولكن وبدون مقدمات وبدون آن نعرف لماذا .. اصبح الجو مغبرا كئيبا مخيفا ... طائرات سود ...كنت آنا والأطفال الآخرين نحسبها طيورا ...تطير فوقنا تأتي من الغرب ثم تعود إليه ثانيه وتطير فوق الغور الذي تشرف عليه بلدتنا ( ماحص ) .. من جميع الاتجاهات ... كنت أرى الكبار مذهولين خائفين .. يتحلقون حول المذياع ... بلاغات ومرشات عسكرية .. . أغاني وطنيه ... افتح على صوت العرب ... يقول قائل .... يقول آخر.. لا ... خليه على عمان ..النساء خائفات باكيات ..( آمي الغالية كانت بدموع غزيرة تبكي باستمرار.. كنت لا احب آن أراها باكية .. أحاول منعها .. لكن دون جدوى ) إنها حرب جديده بين العرب واليهود ..( كنت بعمر لا اعرف معنى الحرب .. القرية كلها أصابها الخوف والهلع .. خرجنا أمي و آنا و إخواني الصغار مع الناس إلى خارج البلدة .... إلي المغر (الكهوف) .... طلبا للحماية من قصف محتمل للقرية ...بناء على نصيحة من الكبار .. ( لان اليهود لا يتورعون عن قصف الأهداف المدنية والمدنيين ). صوت المذيع .. هنا عمان ... هنا عمان ... هنا عمان ( عرفنا فيما بعد آن الإذاعة الأردنية ..كانت تقصف في ذلك الحين ) .... ثم يقول . ..معارك بالسلاح الأبيض تدور رحاها ..في شوارع القدس ... نتساءل ما هو السلاح الأبيض ..ولماذا ابيض ....صوت المرحوم جلاله الملك الحسين بن طلال الذي مازال يرن في آذني .... بأيديكم ... بأسنانكم ... مزقوهم ....
صمت قاتل ووجوم غريب على كل الوجوه حزن وبكاء و ألم .... دعوات ..... احملوا .. الخبز ... الطعام ....الماء ..... إلى الوديان ... وادي شعيب وغيره من الوديان اسفل القرية حملتني أمي خبزا وطعاما .... وسرت مع السائرين ... ولكن وبعد مسافة لا تزيد عن واحد كيلو متر .... قال لي أحد الكبار .... أنت صغير بابني .. هذا صعب عليك ... هات ما معك لاوصلة عنك إلى المهاجرين ,,, وعد إلي اهلك... ماطلت قليلا ودفعني الفضول للمتابعة .. ولكن حين نهرني بحزم ... خفت و عدت ... وبعد ساعات .... بدا يتوافد على القرية ... أطفال ونساء ورجال ... بأعداد كبيره ..على وجوههم التعب والإرهاق والمعاناة والألم والبؤس والشقاء والجوع . ..سكنوا ببعض البيوت القليلة التي لم تستوعب الكثير ... وسكن أكثرهم في الكهوف و تحت الشجر . نزلت بعدها مع ابنا أعمامي إلي وادي شعيب ورأيت بعض السيارات العسكرية العراقية محروقة وبداخلها ... جنود محروقين .
عدت إلى البيت ... آمي ما زالت تبكي ...والنساء يقلن لها آن شاء الله يعود بالسلامة ... الجنود من أبناء القرية عادوا ... أبي... آبي .... آبي ... لم يعد ؟؟؟؟؟ قلق يلف البيت ... أعمامي ... عماتي ... الأقارب ... أهل البلدة ... الكل يسأل ... والبعض يسألني ... أجا .. أبوك .. ما هي أخبار أبوك ... إشاعات ... ناس يقولون انهم شاهدوه ... باريحا ... آخرين بالغور ..... عمي الله يرحمه ...كان ضابطا بالحرس الملكي ... يأتي ... نركب معه بالسيارة العسكرية ... ذهب لا كثر العائدين .... هل رأيت عبد الجليل ... بعضهم ينفي ... أخر يقول ... علمي به في جنين ... و آخر يقول ... افترقت عنه بالشونه ..., و يبدأ عمي رحله البحث ... عن .... أخيه ... آبي ... و أخيرا ... يعرف .... يأتي ... يقول ... عبد الجليل .... أستشهد ... مدفون بخندق بالغور ... بالوادي الأبيض ... بين الشونة ... والكرامة ... غدا نأتي به لندفنه ... هنا في ماحص ...
سياره عسكرية واحد طن تقف بعيدا ..... إنها تحمل الجثمان الطاهر ... المقبرة تعج بالناس ... جنود مرافقين ... آهل البلدة ... النازحين ...الكل يبكي ... جندي ... يروي الحكاية .. الجميع يستمعون ...( كنا بجنين .... إحنا .. المدفعية السادسة الثقيلة ... حاربنا هناك ... ثم طلب منا الانسحاب إلى الضفة الشرقية.. انسحبنا انسحاب منظم .. لم نترك سلاحنا للعدو ....)
... عبد الجليل ... كان يسوق جراره مدفع مجنزره ... وعندما وصلنا الوادي الأبيض بين الشونه والكرامة.. هاجمتنا طائرات العدو ... نزلنا للاحتماء من القصف .... إلا ... عبد الجليل .. ..رفض النزول وصعد إلى أعلى الجرارة ....جلس خلف الرشاش وبداء يقاوم الطائرات المغيرة.... انزل ..يابو طلب .. ورد بإصرار ويده على الزناد لا( لا ...عيب .... عيب ... نرجع ... على .. نسوانا ... مهزومين ... وبدا يكبر ... الله اكبر ... الله اكبر ) ... اسقط طائره ... ولكن ... الطائرة الأخرى ... أصابته بطلقة من رشاشتها في رقبته ... فاستشهد على الفور ... ودفناه هناك مؤقتا ) .
أنزلوه من السيارة العسكرية ملفوف ببطانية جيش بكامل ملابسه العسكرية ( فوتيك مغبر ) ... رئيت ..وجهه الكريم ... بكيت ... ركضت .... نحو ه ...مسكوني ..منعوني..آخذوني بعيدا ... ثم أركبوني بجانب سائق السيارة العسكرية .... السائق يضع خوذته على رجليه ... ينظر إلي ويبكي بغزارة .... لم افهم في حينه ...وأحسست بالغيرة منه ... لماذا هذا يبكي ... آن الشهيد آبي آنا ... هذا شو دخله
... رأيت كيف (شقت) مزقت آمي ثوبها ,( وحثت ) رمت التراب على رأسها وسقطت مغشيا عليها .. وكذلك فعلن عماتي ..(. كانت العادة آن تذهب النساء إلى المقبرة ).
آنا ألان وإخواني الصغار أيتام وأمنا أرمله , آما ...الأب ... الحنان ... والأمان ....والسند .... لم يعد موجودا .... ولكن وبسبب استشهاد ة في الحرب ورغم الهزيمة التي حصلت ,إلا أن مشاعر الفخر والاعتزاز والتعبئة النفسية والمعنوية الوطنية والقومية والدينية لذلك الطفل الذي هو آنا (و أخواني محمد و وضحى وفلحا )عن قيمة الشهادة و التضحية التي قدمها الوالد الشهيد وهي الجود بالنفس الذي هو اسمي غاية الجود , ودور الوالدة الصابرة التي أثرت أن تقوم علي تربية أبنائها وتحوطهم برعايتها وحنانها مثل قطة رغم كل المشاكل الصعوبات وضيق ذات اليد آلتي واجهتها وربتهم علي الأخلاق الحميدة والمثل العليا والقيم الراقية و الصدق والإيمان والاعتماد على النفس في مثاليه مطلقة تكاد تكون خيالية ليس فيها غش أو فساد آو محسوبية .و آن العيش في بيت تعبق فيه روح الشهادة والتضحية والفداء والمشاعر الوطنية الجياشة لا يمكن وصفه آو الإحساس به إلا من عاش التجربة بنفسه.
وبعدها تبدأ قصة المعاناة بين الأمل والألم والطموح والتضحية والفداء و الرغبة والرهبة والصراع بين اليأس والأمل والنجاح والفشل والصراع بين الخير والشر.
أما آنت أيها الأب الغالي الحبيب ... أيها( الشهيد البطل عبد الجليل محمد الجوالدة )في ذكرى استشهادك الأربعين..( صورتك معلقه في صدر الدار )..و نحن لم ننساك ولن ننساك ... وآنت على البال دائما ... ومثار فخر واعتزاز لنا ولأبنائنا ( أحفادك الذين ذهبنا بهم إلى الغور وأريناهم مكان استشهادك ) .., فهنيئا لك الشهادة وعليك رحمه الله تعالى و أسكنك فسيح جناته , آنت وجميع الشهداء الأبرار الذين سقطوا معك من أبناء الجيش العربي الباسل , وكافه شهداء آلامه في سبيل القدس وفلسطين, لكم كل المجد والخلود , وسوف تبقى دماءكم تنير الدرب للأجيال القادمة وتحرضهم على الثأر والتحرير لما استشهدتم من اجله .
talabj@yahoo.com