هل تتجه أوربا نحو قرون وسطى جديدة؟
داود عمر داود
04-04-2020 05:26 PM
(حرب الكمامات)، التي اندلعت في الأيام الأخيرة، تنبىء عن تخلي الحضارة الغربية عن منظومة القيم الإنسانية، التي طالما تفاخرت بها، وظهرت بها، امام بقية العالم. لقد كانت ممارسات أيام قليلة، منذ اندلاع أزمة فيروس كورونا، كافية لإزالة القناع، وكشف الوجه الحقيقي، لحضارة إدعت أنها هي الأفضل. حضارة عادت تمارس القرصنة في أعالي البحار، والسرقة في وضح النهار، وكأنها تتجه بمجتمعاتها والعالم، بسرعة البرق، وبين ليلة وضحاها، نحو العودة إلى شريعة الغاب، التي كانت سائدة، خلال العصور الوسطى، خاصة الفترة المتأخرة منها، في منتصف القرن الرابع عشر الميلادي، (1350). وهي حقبة اتسمت بالتوحش، والتخلف، والجهل، والتنازع، والهرطقة، والحروب الأهلية، وثورات الفلاحين على نظام الإقطاع، والمصاعب، والمعاناة، والكوارث، والمجاعات، وتفشي الطاعون، الذي قضى على ثلث سكان قارة أوروبا، أنذاك.
سرقة الكمامات
يتذكر المراقب الصورة القاتمة، من عصور الظلام في أوروبا، عندما تزداد الأخبار عن لجوء معظم الدول الغربية إلى أعمال قرصنة للمواد الطبية، وخاصة الكمامات، وسرقتها في العلن، فيما يبدو أنه إنحدار سريع، وتخل عن القوانين التي تحكم العلاقات الدولية. فها هي أمريكا تسطو، باسلوب الكابوي، على شحنة من 60 مليون كمامة، كانت متجهة إلى فرنسا. فقد اشترت فرنسا الكمية وبينما كان يجري شحنها، من إحدى مطارات الصين، حطت فجأة طائرة أمريكية وعرض من فيها 3 أضعاف الثمن، عدا ونقدا (كاش)، فوافق الصينيون، وحمل الأمريكيون الشحنة وعادوا بها إلى بلادهم. وقال مسؤول فرنسي (نحن ندفع بالتقسيط ... والأمريكيون يدفعون المبلغ كاملا ونقداً).
وأضاف أن فرنسا ستلجأ إلى إقامة جسر جوي مع الصين للحصول على ما تريد. فيما فرنسا نفسها متهمة بسرقة 130 ألف كمامة كانت في طريقها إلى بريطانيا.
دول تسرق وتُسرق
كما اتهمت ألمانيا الأمريكيين بالاستيلاء على 200 ألف كمامة كانت متجهة إليها من تايلند، ووصفت ذلك بـ (القرصنة) والعمل (المتوحش)، مطالبة الولايات المتحدة بالالتزام بالقوانين الدولية. أما المانيا فهي نفسها أيضاً لم تلتزم بالقانون الدولي، حين أقدمت على سرقة شحنة كمامات تبرعت بها الصين لإيطاليا، وشحنة مماثلة كانت متجهة إلى النمسا. أما التشيك فقد استولت على شحنة أدوية صينية كانت في طريقها إلى إيطاليا. كما اختفت 6 ملايين كمامة، في إحدى مطارات كينيا، كانت في طريقها إلى الجيش الألماني. ولا ننسى ايطاليا التي تخلت عنها دول اوروبا، وصربيا التي خرج رئيسها شاكياً باكياً أمام وسائل الإعلام، معلناً انه سيعتمد على الصين بدلاً من أوروبا.
الوجه المُشرق
كان هذا يمثل الوجه القبيح المتوحش، لما يحصل على الساحة الدولية. أما الوجه الحسن فتمثله تونس. إذ استولت إيطاليا على باخرة، في طريقها إلى تونس، كانت محملة بالكحول الطبية، لتصنيع مواد التعقيم. لكن الرد التونسي، على قرصنة ايطاليا، كان في منتهى الرقي الذي يمثل الأخلاق العربية الإسلامية. إذ أعلنت تفهمها لإحتياجات إيطاليا، وتعاطفت معها لما تمر به من ظروف صعبة، بل وعرضت إرسال فرق تساعد الكوادر الطبية الإيطالية.
فيما سارعت تركيا إلى إرسال مساعدات طبية إلى اسبانيا وايطاليا، تضمنت آلاف المستلزمات الطبية، مثل الأقنعة، والملابس الواقية، ومواد التعقيم المضادة للجراثيم، من منتجاتها المحلية. وحملت صناديق المساعدات مقولة جلال الدين الرومي (هناك الكثير من الآمال وراء اليأس، وهناك العديد من الشموس وراء الظلمة).
أما الوجه الآخر المشرق، في حرب الكمامات والمواد والأجهزة الطبية، فهو العالم المسلم البنغالي (عمر إشراق)، الذي يمتلك شركة مختصة في تصنيع الأجهزة الطبية، مقرها ايرلندا، من بينها أجهزة التنفس. فقد أعلن عن تخليه عن حقوق الملكية الفكرية لإحد أجهزة التنفس، الذي تنتجه شركته، ونشر على الملاء التصميم الكامل للجهاز، ودعا أي شركة في العالم قادرة تقنياً أن تقوم بتصنيعه للمساعدة في إنقاذ أرواح الناس، في أي مكان.
الخلاصة
إن سرعة تخلي دول الغرب عن القيم والقوانين، والعودة إلى استعمال أساليب القرصنة والسرقة، يدل دلالة واضحة على إنحدار مريع في منظومة الأخلاق لديها، مما يؤشر إلى امكانية أن تتوسع في هذه التصرفات (المتوحشة)، إذ اشتدت الأزمة، فتحول العالم إلى غابة كبيرة، يستولي فيها القوي على طعام وشراب ودواء الضعيف، ويتركه نهباً للجوع والمرض والموت، فتصبح حياة البشر، على هذه المعمورة، جحيماً لا يطاق، مع ما يمكن أن يرافق ذلك من صدامات ونزاعات، تجلب معها الويلات والدمار.
فالحياة في ظل الرأسمالية، كما وصفها أحد الغربيين، هي حياة )قائمة على التنافس، وأن التنافس حرب، وأن الحرب جحيم(. أما عمر برادلي، القائد العسكري الأمريكي المشهور، خلال الحرب العالمية الثانية، فقد وصف عالم اليوم الرأسمالي بأنه (عالم تسوده قوى نووية عملاقة، لكنها قوى تفتقر إلى الأخلاق. قوى تعرف عن الحرب أكثر مما تعرف عن السلام، وتعرف عن القتل أكثر مما تعرف عن الحياة).
فهذه هي حضارة الغرب كما شهد شاهد من أهلها، وصدق أمير الشعراء، أحمد شوقي، حينما قال:
كانوا مُلوكاً، سَريرُ الشرقِ تحْتَهُمُ - فهل سأَلتَ سريرَ الغرب: ما كانوا ؟