يقولُ ويعتقدُ كثيرٌ من الأساتذةِ والمختصين في علم العلاقات الدوليّة بأننا اليوم أمام لحظة تاريخيّة فارقة خَلَقَهَا فيروس كورونا المستجدّ (COVID19), فَالعالم –مُذّ لحظة إنتشاره- لم يعدّ كما كان سابقًا, فها هي اليوم الصين -مثلًا- والذي إعتقد الكثيرون أنها باتت على مشارف الإنهيار بعد تفشي الوباء فيها, قدّ دَخلت مرحلة الراحة من الفيروس في الوقت الذي غَرِقَ باقي العالم به, فَسَيطَرَت بكين على الفيروس وأغلقت المُستشفيات التي بَنَتها لِحَجر المُصابين, وتَحَوَلَتْ لمساعدة كل من إستنجد "بالعم سام الجديد". وفي الجانب الآخر من المعادلة دخلت الولايات المتحدة الأمريكيّة والدول الأوروبية في نفقٍ مظلمٍ حالك بعد تفشي الفيروس فيها, مُحاوِلَةً بائِسَةً السيطرةَ عليه, لدرجة أن الفيلسوف الفرنسي "ميشال أونفراي" وصف حال أوروبا قائلًا: إن أوروبا أضحت وأمست اليوم “(العالم الثالث الجديد)” !
فنجد المانيا صاحبة أقوى إقتصادٍ أوروبي كانت قدّ هيّأت مواطنيها ذهنيًا من خطورة تَحوُّل الفيروس عبر العالم إلى وباءٍ قدّ يعصف بهم بين ليلة وضُحاها, إذّ إتخذت على إِثرِ ذلك برلين خطواتٍ جدّية في مواجهة هذا الوباء كَإِغلاقها الحدود مع دول الإتحاد الأوروبي من جيرانها! , أمّا صِربيا فقد ظهر رئيسها -وبدّت عليه علامات الإنخذال والحُزن الشديد- إذّ خاطب شعبه مُصارحًا إياهم: "بأن الإتحاد الأوروبي قدّ تخلّى عنهم" وإستنجد بالصين (العم سام الجديد) وليس بغيرها لإنقاذ بلاده!!, أمّا فرنسا وإسبانيا لم يكونوا بحالةٍ أفضل من غيرهم من الأسرةِ الأوروبيّة فهم أيضًا قدّ أغلقوا الحدود مُتَّبِعيْنَ سياسة النأي بالنفس وتقديم مصالحهم الخاصة على تلك المصالح التي جمعتهم حول طاولةِ الإتحاد الأوروبيّ, تحديدًا كما فعلت شقيقتهم الكُبرى سابقًا (بريطانيا) !!
وفي خِضَمِ هذه الأحداث والفُرقَة والتشتّت التي عَصَفَت بالأسرة الأوروبيّة -التي كانت تُشكل مجتمعةً متكاتِفَة قُوةً ضاربة-, فإننا نُخمِّن ونتسائل في مقالنا هذا؛ هل النظام العالمي الحاكم بدأ يتشكل اليوم من جديد, وبِحُلّةٍ جديدة...؟, هل ما نشهدّه اليوم هو تمهيد لعالم (سياسيٍ–إقتصاديٍ–تكنولوجي-عسكري) جديد, يتم تشكيله وتأهيبه ليقودّه الخندق الإشتراكي الشيوعي التابع للفكر الماركسي اللينيني بعدَ أنّ كان العالم -قاب قوسين أو أدنى- في قبضة الخندق الرأسمالي ...؟
لقد عَلِمَ القادةُ الأوروبيون -هذا وهم يعيشون اليوم- ,أسوأ أزمةٍ قد تكون مشابهةً لما حدث لهم في الحرب العالميّة الثانية, والتي من المتوقع لها أن تُغيّر وجه العالم, أو الظهور بنظامٍ عالميٍ جديد تختلف فيه موازين القُوى وتتباعد فيه الخيارات الإستراتيجّة عما كانت عليه سابقًا وتُصبح المصلحة الخاصة هي الكفةُ التي سُيرجِحها ميزان القوى في عالم مُتعدد الأقطاب؛ -أو كان كذلك على أقل تقدير- قبل جائحة وباء فيروس كورونا المُستجدّ ...
"إذّ إنَّ إنتشار فيروس كورونا المُستَجدّ بهذه السرعة والسِعة على مساحة هذا الكوكب عامةً والقارة العجوز خاصةً وفرضه لزوميّة تجاوب الشعوب بالخضوع لإجراءات تقييد الحريات الشخصية وتقييد الحقوق التي تُباهي فيها الدول الأوروبيّة -واهمةً-, وعلى نسقٍ لم نشاهد مثيل له حتى في الحروب, ما هو إلّا خيار الصفر والكَرّتُ الآخير في يدِّ أحد كبار اللعبة الدولية, أمامَ عَجزٍ (سياسيٍ, إقتصاديٍ, طبيِ, إجتماعي, تكنولوجي) قَدّ وَلِّد الذُعر في مُجتمعاتهم، وإننا إذّ نخشى من أنّ هذا الذُعر سيتعاظم -يومًا بعد يوم بإثرِ إصابةِ حالةٍ بعد حالة- في نفوس الناس هناك, مع مرور كل يوم لا يُطلُّ عليهم رئيس دولةٍ متفاخرًا مُتَبجِّحًا بإيجاد مصل العلاج -رغم قصر المدة لتاريخه-.
وعليه ستتمدد المعاناة النفسية والجسدية مع إمتداد أمدّ الوباء ويصبح المواطن في خوفٍ على حياتهِ وأمنهِ الشخصيّ، وفي خوفٍ من حاجةٍ وجوعٍ وإنغلاقٍ لأُفُقِ نفقٍ لا يُعلم آخره بعد، وسيترافق ذُعر هذه الشعوب عندها مع الإستحقاق العفوي بفقدانها الثقة بالأنظمة والأحزاب الحاكمة هناك, ما سَيتبَعُهُ كَنتّاجٍ حِتميّ خروجٌ عن القانون والمؤسسيه التي كانت ولا زالت تتغنى بها تلك الدول؛ وعندئذٍ سيكون إندلاع عدم الإستقرار والفوضى السياسيّة والإجتماعيّة والأمنيّة في الدول الأوروبيّة, في سباقٍ مع جهودِ وقدرةِ الأنظمةِ القاسيّة على إيجاد الكابح الطبي لهذا الوباء الذي غزا قارتهم دونما سابق إنذار, ولا يمكن لتلكَ الفوضى مع فشلِ الأنظمة إلا أن تكون عنيفةً وقاسيّة في دول الغرب الأوروبيّة "الديمقراطية"، لأن شعوبها سوفَ تَستيّقِضُ على إستغفالٍ إبتَلَعَتّهُ من أنظمتها على مدارِ قرونٍ يفوق بحجمِه وشَكله إستغفال الشعوب الأخرى التي لم تَبتلِّعَهُ طوعيّةً قطّ بل رضخت له مُرغمةً خانِعه"!!
وإزاء هذا الواقع, فإن تلك الأنظمة الأوروبيّة لن تنجوا من التغيير العميق الذي سوف يُذَهِبُ زَيفَ نهجِها وباطِن فكرها وركيكِ سَطحِها -أو حتى تفاديه-؛ فكما لا ديمقراطية ولا حرية ولا خيار شعبي مع الشيوعية، فلا ديمقراطية ولا حرية ولا خيار شعبي مع الإمبريالية والرأسمالية كذا أيضًا. ولن يكون "كُلّ هذا الأمر العظيم" إلّا القطرة التي سوف تسبق "المطر" بالنسبة لتلك الأنظمة الحاكمة, وأولى قطرات "الغيث" بالنسبةِ لتلك الشعوب !!!
لقدّ كانت وستظل الديمقراطية رهان الشعوب للحرية والعدالة الإجتماعية ولسلطتها على نفسها ودُولها، فهي جزئ لا يتجزأ من نداء العقائد، إعتلته "بعض" أنظمة الغرب الإستعمارية التقليدية لتخدع شعوبها وتحمي نفسها منها, فكيف لها أن تؤمن بالديمقراطية التي هي بأساسها نتّاج كِفاح شعوبها ومُفكري شعوبها ضد طُغيانها. ومن الطبيعي جدًا أن يتم تزييفَها في بلادها وأنّ تُحَرِّمها على فرائِسها, فهذه الديمقراطيات الغربية الرأسمالية لا تتحالف إلّا على العدوان وإقتسام مُقدرات الشعوب والشواهِدُ على ذلكم أكثر من أنّ تُعدَّ أو تحصى, وإنَّ كُتب التاريخ سجلت وسوف تُسجل جميعها, ولَعُمريَّ فإن التاريخ لن ينسى أيَّ منها !!!...
في هذا المقام لَرُبَمّا يتسائلُ سائلون كُثر؛ كيف لِدُوَلٍ تَحتَلُ المَراتِبَ الأَولَى في قائِمَةِ الأَغنْى والأحدث في العالمِ –كالدول الأوروبية- أن تصل إلى هذه المرحلة من العجز وعدم الحيله والإنهيار..؟
لقدّ بات كثيرون يشيرون بأصابع الإتهام للخيارات الإستراتيجيّة التي قامت بها العديد من هذه الدول الأوروبية من تجاهلٍ لقطاعاتٍ مُهِمَّة نَحو؛ قطاع الصحة, الريادة, والبحث العلمي على حساب القطاعات الأُخرى نحو التسليح والتسابق إلى التسّلُح, والذي أظهر حقيقة زيّفِهِ أزمة فيروس كورونا المستجدّ بشكلٍ جَلّي لا لُبسَ فيه !!
فصحيح إنّ الإنتشار السريع والواسع للفيروس أقوى من إمكانات العديد من الدول, بيدَّ أنه -الإنتشار السريع للفيروس- قدّ وضع الدول الغربية والأوروبيّة منها تحديدّا, أمام حقيقةٍ صادِمة وإستحقاقٍ واضح لا جدال فيه, مفادُه بأن أنظمتها الصحية متهالكة ولسنواتٍ حُرِمت من إمكاناتِ التطوير والتَطَوُّر بسبب عمليات التقشُّف وتقديم الأحزاب الحاكمة فيها مصالِحَهُم الخاصة على حِساب الصالح العام للمواطن والدولة ككل؛ لدرجة إنّ مستشفيات كُبرى فيها باتت لا تجد حتى اللحظة الأقنعة والزيّ الواقي لطواقمها الطبية؛ ومن الأمثلة –على سبيل المثال لا الحصر- على حالات التقشّف هذه: ما حصل في أوروبا في 10/9/2014 من إغلاقٍ لخمسةِ أجنحةِ طوارئ في خمس مستشفيات مختلفة في عاصمة المملكة المتحدة "لندن".
إنّ التوازن بين حقوق الإنسان والسلامة العامة مُعادلةٌ متغيّرة, لا ثابت فيها إلّا إحقاق وتعظيم الصالح العام للمواطن والذي يُعتبر جوهر المصلحة العليا للدولة الحقّة, وإن بعض الدول الأوروبيّة ذات سمات الديمقراطيّة "شبه المُطلقة", قدّ سَقَطت خاسِرَةً في مواجهة (COVID-19), وإننا في هذا المقام لا نرى من هذا الإنهيار الأُحادي العظيم إلّا بادرة السقوط المُدوي لهذه القوى التي إجتمعت سابقًا على تعظيم مصالحها العامة يدًا بيدّ, إلّا أنه وعند أولَ نِداءِ إستغاثةٍ من أحدهم وهي "إيطاليا" –شقيقتهم الكُبرى في الإتحاد الأوروبي- إلّا أنّ هذا لم يشفع لها أن تحظى بمساعدةِ أيٍّ من إخوتها في الأسرة الأوروبيّة، بيدَّ أنّ المعونةَ قدّ جاءتها من روسيا والصين وفييتنام وكوبا!, وهذا ما يَدفعُنا كباحثين ومختصين للإشارةِ لكثيرٍ من الدولِ وخاصةً دولنا العربية لإعادة التفكيرِ والتفكُّر في كل شيء خاصةً خياراتها الإستراتيجيّة في قادم الأيام, -والتي ستكون حالِكَةً مُظلِمَة- على كثيرٍ من دولنا العربية التي تعتمد على معونات الغير والدعم الخارجي.
وإزاء هذا الواقع, وإزاء كل ما سبق طَرحُهُ وبَيانُه آنفًا, فإننا نَستشرِفُ قادِمَ الأيامِ ونقول؛ التصدُّر الصيني والروسي قادم لا محالَّه, وسيكون نتّاجُهُ الحتميّ التراجع الأمريكي الوشيك! أمّا الهند فهي تسير بخطواتٍ مُتسارعة .. أمّا بحديثنا عن الأسرةُ الأوروبيّة فنوضّح؛ الإنسحاب الألماني والإيطالي قريبُ الإعلان في خِضِم محاولةٍ فرنسيّةٍ بائسة, تهدفُ وترومّ لإعادةِ لمّ الشمل وهذا ما لم يحصُل وما لن يُكتب له النجاح, إذّ سوف يستقر العدادُ على "عشرةٍ ضِعاف بعد الخروجات الجمّه" .. ليكون بذلك: "{الإِتّحَادُ الأَوَرُوّبِي إِنْمُوذَجُ القَرّنِ الحَاديَّ وَالعِشرين لِلإِنْهِيَارِ السُوْفيّتيّ, بِحُلَّةِ الصِرَاعِ الكَوْنِيّ الحَدِيث}" !!!
ولنتذكر جميعًا؛ أنه عندما تتصارع الفيلة يموت العشب .. ولنا في الحديث بقيّه.....
مستشار العلاقات الدوليّة إيــلــيـــا أيـــمن الـــربضي.
المملكة الأردنية الهاشميّة, عمان.