كل يوم، في اشتداد الوباء وفي تعسّر الظروف. في إِسْتفْحالَ الأزمة وفي تفاقمها، تتعاقب الطائرات على المطارات، حيث تمارس الدول واجبها تجاه أبناءها، فتنقذهم من عواصف المرض وأمواج الوباء، وتعيدهم لأوطانهم ليقتسموا معا، بقية الهواء وما أنبتته الأرض، ويستقبلوا مصيرا واحدا. هذا حقهم في العودة الذي كفله الدستور. ليس باستطاعة أحد انتزاعه ولا التسويف فيه ولا إبطاء تنفيذه.
وسط الملمّات، تفزع الدول لأبنائها، تحملهم على سواعدها القوية، وتهمس في آذانهم، لنقف في وجه هذه الأزمة معا، فنحن سواء، إذا أعتمّ ليلنا وادلهمّ، إذا غاب قمر السماء أو ظهر، نحن سواء، في البؤس وفي الفزع، في الطمأنينة وفي الرخاء، وأنتم في سويداء القلب وفي حجراته ؛ بل أنتم في أوسعها وأدناها.
هذا ما تفعله الدول الأكثر تقدما والأقل، على حد سواء. فلم لا تزال الحكومة هنا، في الوطن الذي يملك سجلا ناصع البياض في الفزعة والنخوة، تنظر لظروف أبنائنا المقلقة في الخارج بنوعٍ من التراخي؟ لم لا تزال غير محيطة بالنتائج الوخيمة التي يمكن أن تحدث لهم وفق ظروف حجرهم في تلك البلاد التي لم تعد تملك من أمرها شيئا؟ لم لا تزال تتجاهل صرخات الأمهات ودموعهن، وتضع في "الخرج"، كل الأخبار المقلقة التي لا تزيد الطين سوى بلّة؟
ماذا على الناس هنا أن يفعلوا كي تلتفت الحكومة لهم، ماذا عليهم وهم يرون فلذات أكبادهم من الفتية الذين ما خبروا الحياة هنا فكيف بأقاصي الدنيا، تقاذفتهم الأمواج على أرصفة الحضارة، حيث يفر المرء هناك من أخيه، وحيث يتصارع الأخوة ويقتتلوا على كمامة وورق تواليت؟
هل نقف لنتتظر قوافل جثامينهم التي ربما لن تعود أيضا؟ لن يفعل المزيد من التجاهل والتسويف والبيانات سوى مزيد من الألم لآلاف الأمهات الباكيات.
الظروف مقلقة هناك، والحياة تسير نحو مزيد من التداعيات، وواجب على الدولة أن تبدأ الآن بمراجعة فورية لإجراءاتها في هذا السياق، ولتبدأ رحلات عودة الراغبين منهم، العالقين في المطارات والطلبة المغلقة عليهم أبواب السكنات المهددين في أي لحظة ان يكونوا على الأرصفة وقودا لهذا الوباء.
وإذا ما كانت كلف إعادتهم ووضعهم في الحجر باهظة، فلتكن العودة على نفقة أهلهم في السفر وفي الحجر وفي بقية النفقات.
أتفهّم قلق الدولة المبرر على صحة وسلامة الناس في الداخل، وأرى كما يرى العالم كله كيف عاجلت الوباء بإجراءات حصيفة، فجاء القرار والتنفيذ على قدر عال من المسؤولية والجهد الكبيرين. أتفهم ذلك وأعرف كلف هذه الإجراءات الباهظة، في الاقتصاد وفي غيره.
نعم ندرك أن الدولة تقوم بواجبها ونشد على أزرها ونقف في خندقها، ونحن إذ نقسو في بعض الكلام فإنما تحركنا قلوبنا الكسيرة، إزاء صبايا وشباب، فتية لا يملكون حولا ولا قوة، في بلاد لا يعرفون فيها أحد، ولا من قريب ولا صديق يملك فزعة لهم، ونقول، إذا لم تفزع دولتنا القوية لهم فمن سيفعل.
ستكبر كرة القلق الثلجية، وسيجد الناس أنفسهم أسرى للخيبات. لا ينقص الحكومة حكمة لهذا الإجراء الوطني، ولا تنقصها الأدوات.
هذا جهد وطني لم تتراخى عنه الدولة في حوادث سير فردية فكيف لا تفعل ذلك في خضم ظروف مقلقة وخطيرة ؟