من يستعرض تاريخ هذا البلد ومن يعرف معدن شعبه وقيادته ومؤسساته الوطنية، وفي مقدمتها الجيش العربي الأردني، لن يتفاجأ بهذه الحزمة من الإجراءات المتلاحقة الصارمة للتعامل مع أكبر تحد يواجه الكون بأكمله، ففي حين تفشل دول تملك من الإمكانيات الاقتصادية والطبية ما لا يمكن مقارنته بظروف بلد يعاني مديونية تقارب 44 مليار دولار يصر بلدنا على أن تكون خطته في التعامل مع جائحة لم يسبق للبشرية أن واجهتها منذ مائة عام؛ أي منذ كارثة الانفلونزا الإسبانية بعد الحرب العالمية الأولى بأفضل مستوى عالمي ومن دون تمييز بين مواطن أو مقيم أو زائر عابر، فمن يوضع في العزل الاحتياطي توفر له ظروف مثالية من ناحية سبل الحياة الكريمة والرعاية الطبية على مدار الساعة.
الإجراءات التي اتخذها مجلس الوزراء ظهيرة أول من أمس بتعطيل العاملين في القطاعين العام والخاص إلا من استدعت طبيعة أعمالهم الاستمرار لديمومة الحياة وتبع ذلك تفعيل قانون الدفاع الوطني رقم 13 لسنة 1992 وصدور الإرادة الملكية السامية بالموافقة على تنسيب رئيس الوزراء، لكن الرسالة الملكية دعت إلى تفعيل القانون وبما لا يمس الحريات العامة وحرية التعبير وضمان حقوق الملكية للمواطنين، فالمهم اليوم هو سلامة المواطنين وكل من يقيم على أراضي المملكة، وهذا سلوك هاشمي أصيل ومعهود.
هذه الإجراءات الحكومية، وفي أول يوم اختبار لها، تستدعي أيضا استجابة حقيقية من المواطنين من دون محاولة للتهرب والالتفاف وعدم تقدير المخاطر الكارثية في حال عدم الالتزام، ولنتذكر أن شخصا واحدا فقط وضع أربعمائة شخص في دائرة الإصابة أو العزل نتيجة التهاون وعدم الاستجابة للتحذيرات التي أطلقتها الجهات الطبية المختصة.
في مثل هذه المحن الاستثنائية يتساوى الجميع في تحمل المسؤولية، ومن الخطورة أن تلقى كل التبعات على السلطات الرسمية بالرغم من أنها دستوريا تقوم بأكثر مما توفره الإمكانيات، ولكن يتوجب على المواطنين أن يستجيبوا أولا ومن دون أي محاولة للتفلت وتحت أي مبرر، فعندما تطلب الحكومة تجنب الخروج من المنزل إلا للضرورة القصوى وعدم التدافع في المراكز التجارية وأماكن التجمعات، فعلى الجميع الالتزام لأن غياب الالتزام يفرض على الحكومة وبالقانون فرض حظر التجول من أجل سلامة المواطنين، فكل هذه الإجراءات الحكومية تصبح عديمة الفائدة إذا لم ينضبط الناس ويتفهموا أن وقف مظاهر الحياة العامة ليس مناسبة للتسوق والبحث عن وسائل الترفيه وتمتين العلاقات الاجتماعية.
هذا تحد لنا جميعا، الدولة بكل المؤسسات والأجهزة الرسمية تدير الأزمة بكفاءة وسرعة استجابة تسجل لها ولا ينكرها إلا جاحد وناكر، وهي بذلك نجحت برفع رصيدها بوقت قياسي بينما كانت تستعد للرحيل بمقتضى المهل الدستورية، لكن الأزمة كانت تحديا وفرصة في الوقت نفسه، وهي بعيدا عن كل الملاحظات التي قيلت فيها سابقا تقدم اليوم إدارة حصيفة ومسؤولة بكل فريقها، وهذا يجب أن يقابله التزام تام ووعي وحرص من المواطنين وعدم شيوع ثقافة إن هبت رياحك فاغتنمها لدى التجار وبعض رجال الأعمال، فهي فرصة ليثبت الجميع أنهم مع الأردن. ولعل المشاركة المقدرة على تواضعها للآن في حملة التبرعات لوزارة الصحة تستدعينا أن نسأل عن بعض الأسماء من الشركات والبنوك ورجال الأعمال التي بنت ثرواتها في هذا البلد ولكنها امتهنت النقد السلبي دائما وتختفي في الملمات الكبرى.
يحق لنا أن نفخر ببلدنا بكل عناوينه ولكن الفخر وحده لا يكفي، بل إن أرفع مراتب الانتماء هي الوقوف معه وخلف قيادته في هذا التحدي الذي سنعبره بإذن الله وبتكاتفنا، فهذا الأردن الذي نعرفه ونحبه.
الغد