قبل أيام، حضرت محاضرة الدكتور عدنان البخيت عن القدس في القرن السادس عشر الميلادي. لم يقرأ البخيت محاضرته المكتوبة عن القدس من أوراقه، بل ارتجلها ارتجالاً. وكانت كلها عن مشروع اعادة توثيق القدس، بكل تفاصيلها، منذ بدء تكون الامبراطورية العثمانية إلى ما شاء الله. وهو مشروع لا يمكن مقارنته الا بما تقوم به الجامعة العبرية وجامعة حيفا منذ سنوات، بدراسة وتوثيق التغييرات الاجتماعية في فلسطين وجوارها، منذ سيطرة العثمانيين على المنطقة.بالنسبة لي، فوجئت بالقدرة اللا متناهية للدكتور البخيت، بالحديث عن تفاصيل القدس وناسها وعمرانها وحياتها، وكأنها أمامه. ولم تفاجئني شهادته بدفاع العثمانيين المستميت عن القدس ضد الانجليز في الحرب العالمية الأولى.
البخيت، قال كلاماً مهماً عما يجب، ويمكن، فعله من أجل القدس. أما النجباء، وحين تنبهوا لما يفتحه المشروع من آفاق، فقد اغرتهم مهنة التواضع التاريخية، فأقاموا بالتلمذة في ظل الأستاذ. وآخرون، حاولوا استدراج الكلام إلى مستنقع السياسة. لم تفلح النجابة، ولا التواضع، ولا الاستدراج، مع الشيخ المخضرم. فقد ظل يركض، ناقلاً الماء، من برك ارطاس في قنوات سليمان الحجرية ، إلى الظامئين في حارة الشرف . ليختم المحاضرة بأنه لم يقل شيئاً عن القدس وانه لم يرو عطش ظامئ في مدينة العرب..!.
مشروع البخيت، ان نجح، مذهل ومهول. وهو بسيط، أيضاً. وبساطته تتحدد فقط في استمراره إلى الأبد. ولكن كيف يمكن للأشياء الحقيقية ان تستمر في بلادنا؟! فقط مجرد الاستمرار المتراكم.
استمرار متراكم، بآلية عربية، إلى الأبد. فعلٌ يذكّر بمشروع الدفتر خانة الذي انشأه محمد علي، حاكم مصر، عام 1828. ليصبح أول دار للوثائق في العالم العربي وفي افريقيا كلها. وثاني دار وثائق في العالم بعد فرنسا (1790). وقبل ان تنشئ بريطانيا دار المحفوظات العمومية (1838).
الدفتر خانة المصرية، اصبحت الآن دار المحفوظات العمومية . وهي تحوي كماً هائلاً من الوثائق عن مصر والعالم العربي وافريقيا، وما زالت قائمة الى اليوم. ففيها محفوظات وزارة الداخلية ، التي تضم دفاتر عتق الرقيق و دفاتر قيد العربان ، و سجلات أحوال العمد والمشايخ وغيرها.
وفيها أيضاً دفاتر مكلفات الأطيان وكل ما يخص الأرض الزراعية، والعقارات، وما طرأ عليها من تغيرات، منذ ان كان الفلاح المصري مكلفاً وليس مخيراً في زراعة أرضه.
ان دار المحفوظات العمومية المصرية هي من كبرى دور الوثائق العالمية. وما كان لها ان تكون كذلك لولا التشريع الذي وضعه الخواجة يوحنا ، الذي كلفه محمد علي بمشروع حفظ الوثائق المركزي. هذا التشريع عرف باسم لائحة الخواجة يوحنا . وفيه مادة تعاقب كل مسؤول يمتنع عن تسليم الدفاتر والسجلات للدفتر خانة بالجلد مائة جلدة في ميدان عام. ومن يومها، حرص الموظفون على تسليم ما في حوزتهم من سجلات إلى الدفتر خانة ، حتى قبل المواعيد المحددة لها، لتفادي العقاب.
موعد التسليم هذا، هو اليوم، بالضبط الموعد الذي تنتهي فيه حاجة الادارة الحكومية على اوراقها. فتبدأ الأوراق بالتراكم، وتتحول إلى عبء. وحينها تتشكل لجنة من ثلاثة اشخاص، وتقرر اتلافها او حرقها.
لحظة الاتلاف او الحرق عند الادارة الحكومية، هي بالضبط اللحظة التي تتحول فيها الاوراق الى وثائق. وهي نفس اللحظة، التي يبدأ فيها عمل الدفتر خانة او مركز المحفوظات العمومية. وهي نفس اللحظة الحضارية التي اختارها محمد علي، فأفرد لها ادارة مستقلة عن كل ادارات الدولة، وربطها بشخصه، وكلف بها الخواجة يوحنا فهل يمكن ان نحول، عربياً، لحظة البخيت ، حول القدس، إلى لحظة كتلك..؟!.
FAFIEH@YAHOO.COM