هل يكون كورونا القشة التي تقصم ظهر النظام العالمي؟
داود عمر داود
16-03-2020 01:55 PM
تمر العلاقات الدولية، في هذه الآونة، بحالة من التوتر الشديد، خاصة بين الصين وروسيا من جهة، وبين أمريكا من جهة اخرى، مما يؤشر إلى أن (النظام العالمي)، الذي قام استناداً إلى تفاهمات المنتصرين، في الحرب العالمية الثانية، يتعرض الان إلى هزة كبيرة، ويواجه تحديات جوهرية، قد تطيح به، فيما يؤكد مراقبون انه فعلاً آخذ بالانهيار.
فقد تبادل أقطاب عالم اليوم تهماً خطيرة وجدية، حول الجهة التي نشرت فيروس (كورونا)، ووضعت البشر في حالة تهديد وجودي. إذ اتهمت موسكو وزارة الدفاع الامريكية بأنها هي التي نشرت (كورونا) ضمن حربها البيولوجية، ثم تبعتها بكين بتوجيه ذات التهمة إلى أمريكا، فيما ألقى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب اللوم على الصين، وقال ان الفيروس انتشر فيها أولاً.
فهل سيكون فيروس (كورونا) القشة التي ستقصم ظهر النظام العالمي، الذي حكم العلاقات الدولية منذ 75 عاماً، وحال دون نشوب حروب عالمية جديدة، حتى اليوم؟
عالم ثنائي القطبية
كان من أبرز أهداف النظام العالمي، بعد الحرب، هو تجنب نشوب حرب عالمية اخرى، مهما بلغت الخلافات، والصراعات، والتنافس الاستعماري، بين الدول الكبرى. فجرى إنشاء هيئة الأمم المتحدة، التي اتفقت الدول المنتصرة أن تكون عبارة عن نادٍ تلتقي فيه لحل خلافاتها، بالطرق السلمية، بدل حلها عسكرياً. وبواسطة امتلاكها لما عُرف بـ (حق النقص الفيتو)، أحكمت الدول الدائمة العضوية، في مجلس الأمن، سيطرتها على المنظمة الدولية، وهي الولايات المتحدة، وبريطانيا، وفرنسا، والاتحاد السوفياتي، وأخيراً الصين، بعد ان انضمت للأمم المتحدة، أوائل السبعينات.
اتخذ الصراع الاستعماري بين الدول الكبرى، شكل ما عُرف بـ (الحرب الباردة)، التي كانت أبرز سماتها نشوب حروب بالوكالة، غير مباشرة، على امتداد العالم، وسباق تسلح، وحروب تجسس. وقد نتج عن ذلك قيام كتلتين: كتلة شرقية، ضمت دول اوروبا الشرقية، بزعامة الاتحاد السوفياتي، الذي اتبع الشيوعية والاشتراكية، وكتلة غربية، ضمت دول اوروبا الغربية، بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، القوة الرأسمالية الأولى في العالم. وكان هناك حاجز وهمي بين الكتلتين سٌمي (الستار الحديدي).
عالم آحادي القطبية
هذا ما كان عليه شكل العلاقات الدولية منذ الحرب العالمية الثانية. لكن التقلبات السياسية وضعت تفاهمات ما بعد الحرب الثانية في مهب الريح، مما يهدد بتأجيج الصراعات الساخنة المباشرة بين القوى الكبرى المهيمنة على عالم اليوم. فالأمم المتحدة لم تعد كما كانت، ولا توليها القوى الكبرى نفس الأهمية، وما عاد مقرها هو المكان الذي تحل فيه هذه القوى المتصارعة خلافاتها سلمياً، تجنباً للصدامات. وبذلك فقدت المنظمة الدولية دورها الذي أُقيمت من أجله.
إضافة إلى ذلك، فقد اختفت الكتلة الشرقية، مع انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1989، وقامت مكانه (روسيا الاتحادية)، فانتهت بذلك الحرب الباردة، وعادت دول اوروبا الشرقية الشيوعية إلى الحضن الغربي الرأسمالي. وهنا تغير شكل النظام العالمي من (ثنائي القطبية) إلى (آحادية القطبية)، حين تفردت الولايات المتحدة الأمريكية بزعامة العالم، كونها الدولة الأولى والأقوى، وبذلك هيمنت بسياستها على المعترك الدولي، وأصبح لا يُقضى أمرٌ في العالم، صغيراً كان أم كبيراً، إلا أن توافق عليه واشنطن. ووُضعت جانباً المواثيق، والقوانين الدولية، والاتفاقيات، والمعاهدات، والأعراف الإنسانية، وصارت المصلحة الذاتية العليا هي أساس التعامل الدولي، فرفع ترامب شعار (أمريكا أولاً). ثم أفرطت في استخدام القوة العسكرية، فتحول العالم الى غابة. واختفت الأسسُ المتعارف عليها في حل الخلافات، وصارت هي صاحبة الكلمة الأولى والأخيرة، في كل قضية تواجه العالم، فطغت وتجبرت.
لكن العقود الماضية شهدت بروز الصين كقوة عالمية، أصبحت نداً قوياً تنافس الولايات المتحدة، على النفوذ، وعلى المجالات الاقتصادية، والسياسية، والعسكرية، والتقدم العلمي، وباقي مناحي الحياة. وأدى هذا التنافس بين القوتين إلى خلافات تجارية، تحولت إلى حرب تجارية حامية الوطيس.
تراجع الاتحاد الاوربي
وعلى صعيد القارة الأوروبية، وضعت دول أوروبا الغربية، بعد الحرب العالمية الثانية، اطاراً لتجنيب القارة ويلات الحروب. فقامت بدايةً بتأسيس (الجماعة الاوروبية للفحم والحديد)، عام 1951 في باريس، من أجل إيجاد تفاهم فيما بينها على اقتسام الثروات الطبيعية، منعاً لنشوء النزاعات والحروب، كما كان يحصل في الماضي، خاصة بين المانيا وفرنسا. وقد استندت الجماعة إلى مقولة (أن الهدف ليس جعل الحرب في اوروبا لا يمكن تصورها فحسب، بل جعلها مستحيلة). وهكذا تولت الجماعة الرقابة على إنتاج وتسويق الفحم والحديد بين الدول الأعضاء.
ثم تطورت الفكرة إلى إنشاء (السوق الاوروبية المشتركة)، عام 1957، وتطورت فكرة السوق إلى إنشاء (الإتحاد الاوروبي)، عام 1993. وقد عمل الاتحاد على نقل صلاحيات الدول القومية الى مؤسساته. لكنه تلقى، مطلع عام 2020، ضربة موجعة، إن لم تكن قاضية، بخروج بريطانيا منه. وتحاول دوله الان، بقيادة المانيا وفرنسا، لملمة شمل القارة العجوز مرة اخرى، حتى لا تغادر الاتحاد دول اخرى، فيضعف تدريجياً، وعندها ربما يتلاشى حلم الأوروبيين أن يعيشوا بدون حروب.
نحو عالم جديد
لقد اتسم نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية بهيمنة الحضارة الغربية على باقي العالم، وترسخت سيطرة القوى الكبرى على العلاقات الدولية. وإذا لم تتوصل هذه القوى إلى تسويات لخلافاتها، وإذا إستمر تعارض مصالحها، فإنها قد تصل إلى مرحلة التصادم، وتجد نفسها فجأة وجهاً لوجه، في نزال قد لا يُبقي ولا يذر. وبعد ذلك سيخرج من بين الركام عالم جديد، ربما يسوده الرحمة والعدل، لهذه الإنسانية المعذبة.