حكاية الأردن في عين الإرهاب ليست مجرد ردة فعل على دعم المملكة اللامتناهي لحملة واشنطن الكونية على الإرهاب عقب زلزلة 11 سبتمبر/أيلول الجوية قبل تسع سنوات.
ففصول معمودية الدم تتوالى منذ ستة عقود.
الأردن, الواقع وسط محيط مضطرب حد الاحتراب, تعرّض مرارا للسعات الإرهاب منذ اغتيال الملك المؤسس عبد الله الأول على عتبات المسجد الأقصى المبارك في تموز/حزيران .1951 أول شهيد هاشمي على ثرى الأردن دفع ثمن سياساته الواقعية-الوسطية وتحالفاته مع مراكز القوى في الإقليم والعالم لحماية مصالح بلاده الإستراتيجية.
قبل أسبوعين, استشهد هاشمي آخر; الشريف علي بن زيد آل عون, في قاعدة خوست, شرق أفغانستان. قتل في التفجير أيضا عدد من قيادات وكالة الاستخبارات الأميركية, كانوا على الأرجح مجتمعين ضمن عملية تعقب الطبيب المصري أيمن الظواهري, الرجل الثاني في تنظيم القاعدة بعد أسامة بن لادن.
بين الهاشمي الأول والأخير, استشهد المئات من الأردنيين أثناء تأدية الواجب; بدءا بهزّاع المجالي (1960) مرورا بموفق السلطي (1967) وصولا إلى وصفي التل (1971 في القاهرة). الكل يتذكر الدبلوماسي نائب عمران المعايطة (1994 في بيروت) ورجل الأعمال مصعب خورما (في تفجيرات 2005 الثلاثية). ولا ننسى 56 آخرين لقوا حتفهم في تلك العملية الشرسة التي هندسها زعيم تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين أبو مصعب الزرقاوي, ثأرا من الاستخبارات الأردنية التي طالما استهدفت الإرهاب أينما تواجد لضمان أمن المملكة واستقرارها.
إذن حراك المملكة الاستخباري وتشبيكها مع دول حليفة فرضتهما مؤامرات حيكت في الظلام ضد البلد وقيادته, وتكرار استهداف مصالحه الحيوية ورجالاته, بدءا من رأس الهرم.
خلال النصف الثاني من القرن الفائت, كانت عمليات التخريب والاغتيالات تطبخ في عواصم عربية مجاورة تحمل شعارات قومية ويسارية, وتنفذ غالبيتها فصائل متطرفة.
اليوم, منابع الخطر اختلفت مع بروز القاعدة راعية رقم واحد للإرهاب, متسترة بتفسيرات سطحية ماضوية للدين وشعور ملايين العرب والمسلمين بالقهر بسبب الاحتلال الإسرائيلي المدعوم أميركيا لفلسطين.
يصعب تحليل التفجير الأخير في أفعانستان بسبب الغموض الكبير الذي ما يزال يغلف أكثر الضربات إيلاما لل¯ CIA بعد تفجيرات بيروت قبل ربع قرن. على أن إعلام الطالبان حسم غموض شخصية منفذ العملية همام خليل البلوي, حين بث أمس شريطا يؤكد فيه هذا الأردني الملقب ب¯ "أبو دجانة الخرساني", عزمه على تنفيذ التفجير ثأرا من المخابرات الأردنية والأميركية. ويبدو أن هذا الرجل خدع جهات استخبارية عديدة وترك عائلته هنا في صدمة عمقتها أوامر السلطات لهم بعدم الإدلاء بأي تصريحات.
الجهات الإستخبارية قد تكون شرعت في مراجعة الثغرات التي مكّنت الانتحاري من اختراق كبرى المؤسسات الأمنية في العالم. مطلوب من هذه الأجهزة الإجابة عن عشرات الأسئلة حول آليات تخطيط وإدارة العمليات المشتركة فضلا عن اختيار وفحص صدقية المخبرين.
لكن من حقنا كأردنيين أن نقيّم الحادث الأخير من زاوية المعالجة السياسية-الأمنية-الإعلامية المرتبكة والمترددة في التعاطي مع الخبر محليا مقابل سيل من المعلومات عبر وسائل الإعلام العالمية. تلك الوسائل عرضت روايات متشابهة بالاعتماد على تسريبات أمنية ورسمية أمريكية ومواقع "جهادية". وثبت صحتّها لاحقا.
في غياب رواية رسمية واضحة وجريئة, انخرط الصحافيون في دوامة من التخمين وربط الأحداث, واستشف بعضهم أهمية مركز وحساسية عمل الشريف زيد من إعلانات النعي; لا سيما تلك الصادرة عن مدير وعناصر دائرة المخابرات العامة.
ما عدا ذلك, شلّ الارتجال الإعلام المستقل والحكومي وسط عجز في تقديم وجهة نظر رسمية رغم وجود عشرات المستشارين السياسيين والإعلاميين, القادمين من الوسط الصحافي, يفترض أن يدركوا ما يبحث عنه زملاء مهنة المتاعب من تفاصيل. ألا يعرف هؤلاء أن غالبية الأردنيين يتابعون تعاون بلادهم مع أجهزة استخبارية أخرى في حربها على الإرهاب?
الصحف والإذاعات وغالبية المواقع الالكترونية دخلوا في غيبوبة أمام تدفق تقارير عربية وأجنبية روت أدق تفاصيل العملية الانتحارية. كما تحدثت عن صفعة كبرى تلقتها الجهات التي راهنت على الانتحاري للتوصل إلى الظواهري.
أما التلفزيون الرسمي فهو غاطس في سبات عميق. بالتزامن مع التيه الإعلامي, تابع مئات الآلاف عبر الشاشة المحلية التأثر الواضح على وجوه أفراد الأسرة المالكة لحظة وصول جثمان النقيب الشريف علي, "ضابط الارتباط المكلف بالمهمات الإنسانية في أفغانستان". آلاف المسؤولين, أصدقاؤه ومحبوه ربطوا بين استشهاده وتفجير القاعدة, مستندين إلى تفاصيل أوردها الإعلام الأجنبي.
بعد ثلاثة أيام من التعتيم المحلي, نفى وزير الدولة لشؤون الإعلام والاتصال نبيل الشريف رواية طالبان باكستان بأن البلوي كان عميلا مزدوجا بكنية "أبو دجانة الخرساني".
ويا ليته لم يفعل.
بالطبع لم تكن الرواية الرسمية مقنعة للكثيرين, وسط تعمّق فجوة الثقة بين الدولة والشعب, وتراجع مصداقية الإعلام. لم تتزحزح الانطباعات في عقول من تعودوا الاتكاء على فضائيات عربية وأجنبية, ووكالات أنباء عالمية مهنية وجريئة مثل "رويترز" و"الصحافة الفرنسية" و"الأسوشييتيد برس" التي يكتب معلوماتها إعلاميون أردنيون غالبيتهم مخضرمون. في الغرب تعود الجمهور على تسريبات من مسؤولين يؤمنون بحق المواطن في الاطلاع, ويدركون دور الإعلام في تشكيل الرأي العام من خلال استراتيجيات مدروسة, تعتمد رسائل موجهة تعكس أجندة الدولة, بما يساهم في زراعة "حقيقة نسبية وليست المطلقة" في عقول الناس.
في اليوم التالي لتصريح د. الشريف, ردّد مسؤول رفيع على مسمع مراسلي وكالات أنباء عالمية وصحف أجنبية, بما فيها التايمز اللندنية التي أكتب لها من عمان, رواية أكثر جرأة وتماسكا من الناحية المهنية, لكن مع وجود ثغرات في التسلسل المنطقي قد تفسرها الطبيعة الأمنية للموضوع. ويوم الخميس تجرأت غالبية الصحف اليومية فنشرت تسريبات المصدر الرفيع للإعلام الخارجي.
الرواية الأخيرة لفيلم "انتحاري خوست" جاءت متأخرة, وإن أعطت الملامح الرسمية لشخصية د. البلوي, بطريقة مغايرة تماما لتصريحات د. الشريف قبل أيام. وظهر أن د. الشريف وقع مرة أخرى كبش فداء تعدد الرؤى السياسية والأمنية حيال التعاطي مع الخبر, حال زميله الأسبق د. سمير مطاوع. فحين حاول عملاء موساد اغتيال عضو المكتب السياسي لحركة حماس الفلسطينية خالد مشعل في وضح نهار 25 أيلول/سبتمبر ,1997 خرج علينا د. مطاوع لينفي عملية الاغتيال ويتحدث عن مشاجرة وقعت بين سياح كنديين ومرافقي مشعل.
المصدر الرسمي الأردني, الذي فضل عدم ذكر اسمه, أوضح يوم الأربعاء أن بلاده غير قادرة على التأكد من هوية منفذ التفجير بسبب "تضارب التقارير الإعلامية, ولأننا لسنا موجودين على الأرض الأفغانية". لكنه ألمح إلى وجود تعاون سابق مع أردني يدعى البلوي, الذي تؤكد حركة الطالبان أنه نفذ هجوم أفغانستان الأخير. فالسلطات الأردنية, بحسب المصدر, أوقفت البلوي في آذار/ مارس 2009 بشبهة انتمائه لتنظيمات متطرفة. وأطلق سراحه لاحقا لعدم كفاية الأدلة. بعد ذلك غادر الشاب إلى الباكستان. ومن هناك, بادر لتنبيه السلطات عبر البريد الالكتروني إلى مخططات لدى "جماعات إرهابية" لضرب أهداف أردنية. وحافظت الجهات الأمنية على تعاملها مع البلوي عبر البريد الالكتروني مع علمها المسبق بأنه قد يمارس لعبة ارتباطات مزدوجة. "كان المهم استدراجه واستمرار الاتصال معه", حسبما يشرح المصدر المسؤول الذي يؤكد انخراط الأردن بحرب مع التنظيمات الإرهابية, وفي مقدمتها القاعدة. كما يؤكد وجود تنسيق أمني مع أجهزة استخبارات عربية وأجنبية في سبيل القضاء على الإرهابيين, وتجفيف منابع تهديدهم في أي مكان في العالم".
الإعلام بين مشعل وخوست
لم يتغير الكثير في طريقة إدارة الإعلام وصنع الخبر الرسمي بين "مشعل" و"خوست" غيت في زمن ثورة المعلومات وتدفقّها على نحو لم يعد أي نظام قادرا على وقف تداول المعلومات, مهما وصلت درجة استبداده. فما تزال السياسات والقرارات الرسمية المليئة بحسن النوايا وبالأهداف الوطنية, في غالبية الأحيان, أقرب إلى أحجيات تخضع لتأويلات, بعيدا عن قرائن عقلانية, وبالتالي يتطلب تفسيرها معجزة لدى معشر الإعلاميين. القائمة طويلة, سواء ما يتعلق بإشغال المناصب العليا وتعديل الحكومات, والشركاء الاستراتيجيين, آخرهم ذلك المهتم بمشروع توسعة مصفاة البترول.
مرة أخرى تدفع الثمن صورة الأردن, بسبب تردد مراكز صنع القرار. فبدلا من مساندة وتعظيم دور الأردن في مكافحة الإرهاب مثلا, ساهم التأرجح في تخريب الجهد. وصار لزاما علينا اجتراح طريقة واقعية للتعامل مع الخبر الرسمي لخدمة الأجندة العليا للدولة بالاعتماد على الاعلام المحلي. بوقوع شهيد في معركتنا مع القاعدة كسبنا الشريف علي في الجنة وخسرنا الإعلام في جهنم. نتمنى أن يتعلم القائمون على الإعلام من دروس انتحاري خوست لوقف الانهيارات وبناء مكاسب مستقبلية. فلا شيء يدعو للخجل في معركتنا ضد الإرهاب أو معركة الدولة على جبهة الدبلوماسية لحل الصراع العربي - الإسرائيلي. ولا يفترض أن يخشى الأردن من خسارة جولة في معركة الإرهاب, لأننا معنيون بكسبها كما نحن معنيون بالفوز بحرب السلام.
تأسيس مطبخ إعلامي سياسي لإدارة الأزمات بات ضرورة لبث خطاب الدولة بالاستناد إلى تصور واقعي وعميق مبني على المعلومات والتعامل مع التحديات القادمة, بمزيج من الشفافية, الاحتراف, الدقة والذكاء بطريقة تليق بسكان دولة تتمتع بأقل معدل أمية بين العرب وتحلّق في فضاءات العصر الرقمي.
rana.sabbagh@alarabalyawm.net
العرب اليوم.