في الأزمات بشتى أنواعها، تزدهر الشائعات ويسهل ترويجها، وفي المقابل تزدهر النكتة والفكاهة، وليست مصادفة على الاطلاق أن الشعب المصري الممتدة حضارته ووجوده إلى أكثر من سبعة آلاف عام، هو من بين أكثر الشعوب على وجه الكرة الأرضية "خفة للدم" و "إنتاجاً للنكتة والفكاهة" رغم الظروف الصعبة التي عاشها ويعيشها منذ الزمن الفرعوني.
ويبدو أن المصريين بدأوا معاندة الظلم الواقع عليهم منذ ما قبل التاريخ بالتحايل على أنفسهم وعلى الواقع، أي من خلال "تجميل" الظلم أو "تحقيره" من خلال "التنكيت"، وكان للفكاهة وخفة الدم "إله" في مصر القديمة اسمه "بس" وشكل هذا الإله مضحك. فهو على شكل قزم منتفخ الوجنتين وله ذقن تشبه المروحة، وكان الإله بس يُعبد إلهاً للرقص، والموسيقى، والفرح، وكل أنواع الملذات.
الأردنيون يعاكسون تماماً الصورة النمطية المتداولة عن المصريين، فالانطباع العام عن الشعب الأردني انه شعب جدي إلى أبعد الحدود، ومساحة الفكاهة والضحك في حياته اليومية محدودة، وهي ظاهرة تحتاج للتفسير، فهو تاريخياً لم يعش الفقر، والعوز الذي عاشه الشعب المصري ولا غيره من شعوب المنطقة، كما أن تاريخه السياسي الحديث منذ تكوين الدولة الأردنية في بدايات القرن الماضي خلا من نماذج سلطوية دموية، أو ما يمكن تسميته "بالتسلط والديكتاتورية"، بل على العكس، فقد تميز هذا التاريخ بالتسامح والتواصل الدائم بين الملك ورعيته، ومع ذلك تتسم الشخصية الأردنية "بالكشرة"، واعتبار الضحك "قلة هيبة وقلة أدب"، غير أن "الشخصية الحديثة "للأردني وتحديداً الشباب باتت لها سمات مختلفة إلى حد كبير من أبرزها التماهي مع العصر وقوانينه، والابتعاد بقدر نسبي عن العادات الريفية والبدوية الصعبة والمتزمتة، خاصةً تلك التي تعيق تفاعله مع العصر، وهي سمات ألقت بظلالها على الشباب الأردني الذي أصبح يتفاعل مع العالم المحيط به القريب والبعيد بأدوات العصر، خاصةً وسائل التواصل الاجتماعي التي أودع فيها مخزوناً كبيراً للغاية من الفكاهة، والتندر على الواقع، والحياة بشكل عام، ووصل للمرحلة التى بدا فيها يحاول هزيمة المصاعب الحياتية بالنكتة اللاذعة، والكلمة الساخرة، والرسم الكاريكاتوري المعبر والعميق، ومن أبرز الأمثلة على ذلك الصديق الفنان عماد حجاج "أبو محجوب" الذي أحال الملامح العامة لوالده المرحوم "أبو كايد" إلى رمز للشخصية الأردنية الفكاهية من خلال توقيعه الشهير "هلا عمي".
وفي زمن كورونا، تداول الأردنيون في ما بينهم الآلاف من النكات المنُتجة محلياً وعلى سبيل المثال النكتة السياسية التالية، وأنقلها كما هي بشعبيتها وأخطائها اللغوية، والقواعدية، النكتة تقول:
"إيران اكتشفت العلاج لكورونا وعالجت جميع المصابين عندهم... وأمريكا هددتهم إذا لم يظهروا العلاج تحاصرهم أكثر، لأن أمريكا هي التي افتعلت كورونا حتى تضر به أعداءها الصين، وإيران إقتصادياً، لكن إيران إكتشفت العلاج وضربت خطة أمريكا وأطاحت بالهيمنة الامريكية ومرمغت رأسها بالتراب".
المصدر: شوفير تاكسي من إربد ركبت معو اليوم.
شوفير تاكسي تعني سائق تاكسي.
أما الشعب العراقي الذي يُتهم بالقسوة والحياة الجادة والصارمة، وهي صورة نمطية ظالمة وظالمة جداً، فهم أقرب ما يكون للشعب المصري في حب الحياة، وتذليل مصاعبها بالنكتة، والكلمة الناقدة، والساخرة والذين عاشوا في العراق، وأنا أحدهم أو عاشوا مع عراقيين، يلمسون ذلك بكل بساطة، وحتى في أحلك الأوقات تمرد العراقيون على واقعهم بالنكتة، والكلمة الناقدة، أوالصورة الكاريكاتورية، وأخيراً وصلني فيديو لواحدة من المظاهرات الشبابية الاحتجاجية في إحدى المدن العراقية، وهذا الفيديو يعد نموذجاً لتوظيف "كورونا" توظيفاً سياسياً، ففي ذلك الفيديو يهتف المتظاهرون مخاطبين فيروس كورونا قائلين:
"اسمع الثوار يا كورونا ... بلكت تسير على الباكونا
نريد منك تفزعنا .... تروح للبايق حلمنا
لان حبينا الوطن كتلونا
بلكت تسير على الباكونا"
وللذين لا يفهمون اللهجة العراقية، هذا الهتاف يخاطب فيروس كورونا ويقول له "اسمع كلام الثوار ياكورونا"، ثم يكمل المتظاهرون الهتاف بدعوة فيروس كورونا الذهاب للذين "باكونا" أي سرقونا أي سرقوا الشعب ويكملون هتافهم: "نريد منك تفزعنا" أي نريد أن تقف معنا، وأن تذهب للذين سرقوا حلمنا، ويختتم الهتاف بالقول "لان حبينا الوطن كتلونا، أي قتلونا".
بضعة أسطر وعدد محدود من الكلمات شكلت لوحة فنية راقية، جمعت بين الكلمات الثورية المتمردة، وبين التوظيف الدرامي الفكاهي، لفيروس كورونا، وتحويله لوسيلة انتقام من سراق الحلم الوطني، المتمثل في محاربة الفساد، والبحث عن الحرية.