الدين الداخلي .. الواقع والاَفاق
د. محمد أبو حمور
09-03-2020 01:06 AM
تصاعد وتيرة ارتفاع الدين العام خلال العقد الاخير كانت واضحة في مختلف مكوناته ومن اهمها الدين الداخلي الذي ارتفعت قميته بالصافي من حوالي 6.8 مليار دينار عام 2010 الى حوالي 13.5 مليار دينار عام 2015 والى 16.5 نهاية عام 2019، ووفقاً لاخر البيانات الحكومية فقد بلغ اجمالي رصيد الدين الداخلي في نهاية عام 2019 أكثر من 17.7 مليار دينار، أي ما يعادل 56.9% من الناتج المحلي الاجمالي المعاد تقديره لعام 2019، مقارنة مع حوالي 16.2 مليار دينار أو مانسبته 54.1% نهاية العام السابق، ومن الملاحظات المهمة فيما يتعلق بالدين الداخلي هو تضاعف المتوسط المرجح لعمر القروض الداخلية خلال اخر خمس سنوات، حيث ارتفع من 2.1 شهر/سنة عام 2015 الى 4.2 شهر/سنة عام 2019، ما يعني ان الاعباء المترتبة على الدين الداخلي سوف تظهر اثارها خلال فترات زمنية أطول، كما أن نسبة الفوائد التي يتم دفعها على الدين الداخلي تصبح أعلى، فقد أشارت مصادر وزارة المالية الى أن متوسط أسعار الفائدة التي جرى تحديدها عبر السوق، بلغت أكثر من 5.3% على سندات 7 أعوام، و 6.3 % على سندات 10 اعوام، و 7.4% على سندات 15 عاما، كما أن هناك تطور اخر يلفت الانتباه ويتعلق بمصادر المديونية الداخلية، حيث شكلت المصادر البنكية حوالي 74% عام 2015 وتناقصت بشكل واضح خلال السنوات التالية لتصل نسبتها الى حوالي 59% عام 2019، أما المصادر غير البنكية والتي كانت حوالي 26% عام 2015، فقد ارتفعت الى ما يقارب 41% عام 2019، وقد يفسر ذلك بتوسع استثمارات صندوق استثمار أموال الضمان الاجتماعي في السندات الحكومية، والتي بلغ رصيدها نهاية العام الماضي حوالي 5.7 مليار دينار، حيث بلغت إيرادات محفظة السندات 230 مليون دينار خلال أول تسعة اشهر من العام الماضي، وبنسبة 54 % من اجمالي إيرادات صندوق الاستثمار.
فيما يتعلق بالجانب التشريعي فقد عرف القانون رقم 26 لسنة 2001 » قانون الدين العام وادارته» الدين العام بانه الرصيد القائم للالتزامات المباشرة وغير المباشرة المقيم بالدينار الاردني غير المسدد والمترتب على الحكومة دفعه تسديداً لالتزاماتها، وقد صنف القانون الدين الى قسمين رئيسيين وهما الدين الخارجي،أي الدين العام الواجب تسديده بغير الدينار الاردني، والدين الداخلي، أي الدين العام الواجب تسديده بالدينار الاردني. وقد شكل هذا القانون في حينه قاعدة لنقلة نوعية في ادارة الدين العام، حيث تم توضيح الاغراض التي يقتصر عليها الاقتراض الحكومي اضافة الى تحديد اليات واجراءات وصلاحيات الاقتراض، ومن أبرز ما تنبغي الاشارة له ان القانون حصر الاقتراض الحكومي الداخلي بالسندات الحكومية، بما فيها اذونات الخزينة وحظر الاقتراض الداخلي المباشر من البنوك التجارية أو أي مؤسسة أخرى. كما أن المادة 21 من القانون أشارت الى عدم جواز ان يزيد رصيد الرصيد القائم للدين العام الداخلي عن 40% من الناتج المحلي الاجمالي بالاسعار الجارية للسنة الاخيرة التي تتوافر عنها بيانات، وهي نفس النسبة التي تم النص عليها في المادة التالية فيما يتعلق بالرصيد القائم للدين العام الخارجي، أما المادة 23 فقد أشارت بوضوح الى عدم جواز ان يتجاوز الدين العام بشقيه الداخلي والخارجي نسبة 60% من الناتج المحلي الاجمالي بالاسعار الجارية، وفي حين منح القانون مجلس الوزراء صلاحية تحديد تاريخ بدء سريان المادتين المتعلقتين باجمالي الدين العام والدين الخارجي، الا ان ذلك لم يشمل المادة المتعلقة بالرصيد القائم للدين الداخلي بمعنى انها سارية المفعول وواجبة التطبيق، ومع بلوغ الدين الداخلي في نهاية عام 2019 للنسب التي تمت الاشارة اليها اعلاه، فمن الواضح أن الحكومة في ضوء برامجها وخططها لادارة الدين العام لم تستطع ان تلتزم بنص القانون فيما يتعلق بالنسب المتعلقة بالدين الداخلي.
يعد الدين الداخلي أحدى وسائل التمويل التي تتم عبر حشد المدخرات المحلية لتغطية عجز الموازنة للحكومة المركزية أو المؤسسات المستقلة، ويتميز هذا النمط من التمويل بانه، اذا استخدم بالشكل المناسب، يحمل في طياته اثاراً ايجابية عبر تنشيط القطاعات الاقتصادية المختلفة والمساهمة في الاستثمارات الراسمالية وتنمية راس المال البشري، واضافة الى ان عوائده التي تدفع على شكل فوائد يعود أثرها على المؤسسات المقرضة داخل الدولة، فهو أيضاً لا يتسبب باستنزاف العملات الاجنبية، كما أنه لا يقترن باملاءات او شروط للجهات المقرضة كما هو حال التمويل من خلال القروض الخارجية، ولا يعاني من مشكلة مخاطر اسعار الصرف وتقلباتها لانه يسدد بالعملة المحلية، ولكن ذلك كله لا ينبغي ان يحجب عنا مخاطر تفاقم المديونية الداخلية واعبائها التي تترتب على الموازنة، واحياناً الاثار المحتملة على مجمل الاداء الاقتصادي، ومن الضروري ان تتم ادارة الدين الداخلي في سياق متكامل لادارة حصيفة وفق أهداف ورؤى واضحة تتعلق بالدين العام بشقيه، وذلك مع الاخذ في الاعتبار الاثار المحتملة على استثمارات القطاع الخاص، فاقتراض الحكومة من البنوك، خاصة عندما يتوسع بشكل غير مدروس، يقلص مصادر التمويل المتاحة للقطاع الخاص من خلال التأثير على حجم السيولة،وهذا قد يعني حرمان الاقتصاد من مشاريع تولد فرص عمل اضافية وتساهم في رفع نسبة النمو الاقتصادي، لذلك فان التعامل مع الدين الداخلي يفترض ان يتم في اطار واضح يخضع للاصلاحات التي تنفذ في مجال المالية العامة وبما يضمن استقرار الاطار الكلي للاقتصاد، كما لا بد من الالتفات الى الاثار المتوقعة لادوات الدين الداخلي على اسعار الفائدة وامكانية تفضيل المؤسسات المصرفية لاقراض الحكومة بدلا من القطاع الخاص باعتبار ان الدين الحكومي مضمون ولبس له مخاطر مرتفعة مقارنة بالاستثمار الخاص، لذلك فالتوازن بين مختلف اشكال الاقتراض تماماً كما هو مطلوب لتحقيق الانسجام بين السياستين المالية والنقدية مطلوب ايضاً لتتحقيق التوازن بين القطاعين العام والخاص، وفي كل الاحوال لا بد ان نضع نصب اعيننا ان المديونية، سواء كانت داخلية او خارجية، عندما تتجاوز الحدود وتستخدم كاداة لتمويل النفقات الجارية تصبح خطراً على المنجزات التنموية بدل ان تكون اداة لتعزيزها وتقلص امكانيات السياسة المالية وقدرتها على القيام بدور تنموي يتفق مع المتطلبات والتطورات التي يشهدها الوطن، فالدين العام يمكن ان يكون اداة تمويل تسهم في بناء المشاريع الاستثمارية والبنى التحتية اذا تم التعامل معها بحكمة وموضوعية وبما يتفق مع مقدرات الاقتصاد الوطني مع عدم اغفال ما قد يترتب عليه من مخاطر.
يشكل مستوى الافصاح والشفافية اداة مهمة تمكن من التعامل بموضوعية مع الدين الداخلي والتصدي لما قد يترتب عليه من مصاعب، وبالرغم من أن هناك عدد من التقارير والنشرات التي تصدر عن المؤسسات ذات العلاقة في المملكة تعزز هذا الاتجاه، الا ان هناك بعض الاراء التي تعتقد ان الافصاح عن الدين العام والالتزامات الحكومية لا زالت بحاجة لمزيد من التوضيح في بعض الجوانب، فالمستحقات غير المسددة للمقاولين او لشركات الادوية او شركات الكهرباء او الاستملاكات بل وحتى الرديات الضريبية المتأخرة هي عملياً عبارة عن ديون ومستحقات في ذمة الحكومة وان كانت لا تدخل ضمن احصاءات المديونية الداخلية، واثرها على الاقتصاد قد يكون أشد وطأة من الديون المثبتة في الاحصاءات، فهي تعيق عمل قطاعات اقتصادية مهمة واثرها السلبي قد ينعكس على قطاعات اخرى عندما لا تتمكن هذه الشركات من تسديد التزاماتها او القيام بالمهام المطلوبة منها بالشكل المناسب، فالاقتصاد كل متكامل والارتدادات السلبية قد يتوسع اثرها لتشمل اطرافاً اخرى، وقد أحسنت الحكومة صنعاً عندما بدأت في تسديد هذه المتأخرات بشكل منتظم عبر ادراج بند التزامات سابقة ضمن الموازنة العامة.
يتطلب العمل لتقليص الاثار السلبية التي قد تترتب على الارتفاع المفرط في المديونية الداخلية توجهاً مباشراً لمعالجة الاسباب المؤدية اصلاً لهذا الارتفاع والتي لا تخرج عادة عن التوسع في الانفاق العام وعدم القدرة على تحصيل الايرادات الملائمة لحجم الانفاق، الا انه لا بد ايضاً من ادارة كفوءة للدين العام تراعي ايجاد صيغة ومزيج ملائم للدين الداخلي والخارجي يخدم المتطلبات التنموية ويقلص اعباء المديونية، وقد يكون من المفيد التذكير بضرورة الاستفادة من أدوات التمويل الاسلامي وامكانيات استخدامها لاقامة مشاريع تنموية واستثمارية، سواءً في اطار الانفاق العام الرأسمالي أو في اطار مشاريع الشراكة، خاصة وان الدولة الاردنية عندما أقرت قانون صكوك التمويل الاسلامي عام 2012 كانت تسعى لتوفير اداة جديدة تعزز ادارة الدين العام ويمكن من خلالها توفير التمويل اللازم لمشاريع حيوية قد لا تتمكن الموازنة العامة من توفير التمويل اللازم لها.
قبل يومين أعلنت الحكومة اللبنانية تعليق تسديد سندات اليوروبوند التي تستحق اليوم وتبلغ قيمتها 1.2 مليار دولار، وهذه هي الدفعة الاولى من السندات التي يبلغ مجموعها 4.6 مليار دولار وتستحق خلال العام الحالي 2020، ونحن هنا لسنا بصدد مناقشة هذا الموضوع وانما للتذكير بان الاستمرار في الاستدانة المفرطة، وكما عايشناه خلال العقد الماضي، سيؤدي عاجلاً أم اجلاً الى مواجهة الحقيقة ودفع الثمن الذي قد يكون باهظاً، لذلك ونحن في الاردن، وبالرغم من اننا لا زلنا في سعة، الا ان هذا لا يمنع بل قد يستوجب التفكير الجدي المقرون بالعمل الدؤوب لكي لا نصل الى مثل هذا الواقع، والفرصة امامنا لا زالت متاحة، فالنعمل اليوم على ادارة الدين العام وهيكلته في اطار خطة وطنية تحفز الاقتصاد وترفع نسب نموه وتبقي المديونية بشقيها الداخلي والخارجي ضمن مستويات امنة.
(الرأي)