معركة الثعالب في سوريا كيف حول السلاح التركي تدخل روسيا الى ورطة
داود عمر داود
08-03-2020 06:22 PM
حالة التوتر، التي بدا عليها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وكانت ظاهرة للعيان، لدى استقباله الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في الكرملين، يوم الخميس الماضي، ونقلتها الكاميرات، كانت ملفتة لنظر المتابعين. فإذا كان الزعيم الروسي بهذه الحالة من الاضطراب النفسي والتوتر لماذا جعل استقبال الرئيس التركي علني، وأمام الكاميرات؟ كان بامكانه الدخول إلى الاجتماع فوراً، دون تصوير ودون الإدلاء بتصريح، في قاعة الإستقبال المعتادة. لكن يبدو أن هناك ظروف ضاغطة على بوتين، ربما خارجة عن إرادته الشخصية، أجبرته على الظهور بهذا الشكل المضطرب، والمهزوز، أمام العالم، لدرجة أنه لم يستطع تمالك نفسه، لدقائق، لإخفاء حالة التوتر التي كان عليها.
استحضار التاريخ
نصوص الكلمات التي القاها كل من بوتين وأردوغان، والبيانات التي تلاها وزيرا خارجيتهما، كانت كلها ملغومة ومفخخة، وتحتمل التأويل والتفسير، والخلاف فيما بعد، حتى انها اشتملت على اشارات مبطنة، ربما تكون تهديدات أيضاً. فإشارة أردوغان إلى تاريخ 500 عام من العلاقة التاريخية بين تركيا العثمانية وروسيا القيصرية لم تكن إشارة بريئة على الاطلاق. فهذا التاريخ الطويل كان مليئا بالعداوت والصراعات والحروب، ولم يكن (سمن وعسل) كما يقولون. وأهم ما في تاريخ العلاقات بينهما أن تركيا احتلت العاصمة موسكو مرتين، ثم تركتها وغادرت نظرا لعدم أهميتها، في ذلك الزمن، ولأن الدولة العثمانية كانت تعتبر روسيا دولة من الدرجة الثانية.
فقد احتل العثمانيون موسكو في ربيع عام 1571، أيام حكم (إيفان الرهيب)، نتيجة مضايقات الروس للحجاج والتجار المسلمين، ومهاجمة قوافلهم التجارية، وأطماعهم في التوسع، مستغلين وفاة السلطان (سليمان القانوني) انذاك. وكانت النتيجة احتراق موسكو عن بكرة أبيها.
هاجم العثمانيون روسيا بجيش بلغ تعداد 120 ألف فارس، وسرية مدفعية، توجهوا مباشرة الى موسكو، فحاصروا المدينة وباغتوا قوات خفر الحدود الروسية، وأبادوها بالكامل، فتشتت شمل الجيش الروسي، الذي لم يصمد أمام نيران المدفعية العثمانية، فخسر الروس 8 آلاف جندي، وفر بقية الجيش، في مشهد مخزي، وطاردهم الجنود العثمانيون، وحرقوا معسكراتهم. ثم هبت رياح نشرت النيران في أرجاء المدينة، وانهارت المباني، فهرب السكان، وتدافعوا في الشوراع الضيقة، في مشهد مرعب، وقفز كثيرون في نهر موسكو وغرقوا، ثم انفجر مستودع للذخيرة، في (سرايا الكرملين)، فاحترق بالكامل.
استغلال لحظات الضعف
احتلال الدولة العثمانية لموسكو، وحرقها، حدثٌ تاريخي دونت تفاصيله كتب التاريخ، لكن أن يأتي حفيد العثمانيين أردوغان، ويقوم بالتذكير بحروب الماضي بين الطرفين، والتي كان من بينها احتلال موسكو، ويفعل هذا وهو جالس في قلب الكرملين، الذي أحرقته مدفعية أجداده، قبل حوالي 500 عام، لأمر كبير، واستثنائي، وغير عادي، وهو حدث لا يُنسى، في السياسة الدولية، والصراعات بين الدول. فالعادة جرت أن يتحدث الساسة في مثل هذه الظروف بإسلوب تصالحي، صريح وغير مبطن.
ويبدو أن الرئيس التركي استغل لحظات ضعف تمر بها القيادة الروسية، بعد الضربات العنيفة التي تلقتها في سوريا، وبعد أن تلطخت سمعة سلاحها، الذي حيده السلاح التركي الصنع، فأراد أن يضع مزيداً من الملح على جروح بوتين، بإشارته إلى الماضي، بإسلوبه الدبلوماسي.
أبرز ما توصل اليه بوتين وأردوغان، في اجتماعهما الصعب، الذي استغرق 6 ساعات، هو وقف اطلاق النار، وتسيير دوريات مشتركة، وبخلاف ذلك دلت نصوص كلمات وبيانات وتصريحات الطرفين على أن لكل منهما وجهات نظر مختلفة في باقي المسائل، وفي مآلات الصراع في سوريا.
شرعية التدخل التركي
كان من أهم المكتسبات الضمنية التي حققها أردوغان، في قمة موسكو مع بوتين، أنه رسخ شرعية الوجود العسكري التركي في سوريا. فالتأكيد على شرعية وجود الجيش التركي جعلت من أنقرة طرفاً أصيلاً رئيسياً في الأزمة السورية، إذ صارت صاحبة كلمة فيها. أما روسيا نفسها، فإن وجودها العسكري هناك يستند في شرعيته إلى أنها جاءت بناء على طلب رسمي من حكومة دمشق. فالروس هم من جعل التدخل التركي تدخلاً شرعياً. أما ايران فكانت هي الخاسر الأكبر في هذه التطورات، إذ بلغ ضعف موقفها أن اتصل رئيسها، روحاني، ليتوسط لدى أردوغان أن يسمح بسحب جثث قتلى مليشيات ايران، وحزب الله، من أرض المعركة.
أهداف روسيا: بسط النفوذ
ويمكن القول أن إتفاق موسكو لوقف اطلاق النار، بين تركيا وروسيا، ربما يكون مؤقتاً، ريثما يتم إستئناف القتال قريباً. لكن يبقى السؤال ماذا تريد روسيا من تدخلها في سوريا، وماذا تريد تركيا؟
من الواضح أن روسيا تريد أن تجعل من سوريا منطقة نفوذ لها، وأن تكتسب موطىء قدم على مياه البحر المتوسط الدافئة، والأهم ان تحافظ على بقاء نظام الحكم الحالي في دمشق. لكن التطورات العسكرية، خلال الاسبوع الماضي، جعلت روسيا تشعر أن تدخلها في سوريا تحول من نزهة إلى ورطة كبيرة، وان أيام الإستقواء بطيرانها على مقاتلي المعارضة، بأسلحتهم الفردية، يطحنهم القصف الجوي الروسي، والبراميل المتفجرة .... أن أيام الإستقواء تلك قد ولت، إلى غير رجعة. إذ أصبح السلاح الروسي يواجه حربا اليكترونية تمكن خلالها نظام (كورال) التركي من التشويش على الرادار الروسي وتحييده بالكامل، إضافة إلى طائرات (بيراقدار) التركية المسيرة، التي هيمنت على الأجواء، دون منازع.
أهداف تركيا: ضم سوريا إليها
أما أهداف تركيا فهي تريد، أن تستكمل مرحلياً إنشاء المنطقة الآمنة، 35 كيلومترا في 20 كيلومترا، وان تنعشها اقتصادياً، بحيث تعيد إليها 4 ملايين لاجىء سوري يقيمون حاليا على أراضيها. كما تريد تركيا أن يظل الصراع في سوريا قائماً ومفتوحاً، إلى حين تصبح الفرصة سانحة كي تنطلق جحافل (الجيش السوري الحر) المعارض، من منطقة إدلب، نحو دمشق، لإسقاط النظام، والاستيلاء على حكم سوريا.
الخلاصة:
وهكذا يكون الصراع على سوريا قد انحصر الآن، على أرض الواقع، بين روسيا وتركيا، ومن الواضح أيضاً أن مناورات الثعلب الروسي، والثعلب التركي، تتمحور كلها حول أن يحقق كل منهما أهدافه الخاصة به. فلمن ستكون الغلبة في النهاية؟ هذا ما ستجيب عليه الأيام القادمة.