المصريون لا يتذكرون إلا محاسن موتاهم
سعدالدين ابراهيم
07-03-2020 05:02 AM
فى النصف الأول من القرن العشرين كان حزب الوفد هو القوة السياسية الشعبية التى التف حولها معظم المصريين فى مواجهة الاحتلال البريطانى من ناحية، وتغول الأسرة المالكة لأحفاد محمد على، من ناحية أخرى.
ولأن ثورة يوليو بزعامة جمال عبدالناصر لم تعترف بثورة 1919، ولا بُزعمائها إلا قليلاً، فقد خاصمت مَن تبقى على قيد الحياة من زُعمائها. ومع ذلك حينما رحل مصطفى النحاس باشا، وانتشر الخبر، فإن آلاف المصريين خرجوا، ومشوا فى جنازته، وهو الأمر الذى أذهل عبدالناصر، طبقاً لشهادة أحد المقربين إليه، وهو محمد حسنين هيكل.
وقد تكرر نفس الشىء مع قيادة سياسية أخرى، وهو اللواء محمد نجيب، الذى طلب منه الضُباط الأحرار أن يرأسهم فى الانقلاب على الملك فاروق، وذلك لما كان يتمتع به من سُمعة طيبة فى صفوف الجيش المصرى. ومع نجاح الانقلاب والتخلص من الملك فاروق، وإلغاء الملكية، ورغبة محمد نجيب فى أن يُمارس دوره كرئيس للجمهورية قولاً وعملاً، فإن الضُباط الأحرار أنكروا عليه ذلك، وعزلوه، وفرضوا عليه الإقامة الجبرية، فى إحدى الفيلات المهجورة، خارج القاهرة، حيث عاش خلال العشرين سنة التالية، بعيداً عن الأضواء، حتى ظن المُراقبون أنه أصبح نسيًّا منسيًّا. ومع ذلك حينما وافته المنية، وعرف الناس الخبر، فإن آلاف المصريين هبّوا إلى جنازته، دون تنويه أو تعبئة من أحد.
ولا تفسير لظاهرة الحشود التلقائية فى جنازتى مصطفى النحاس، ثم بعده بعشر سنوات محمد نجيب، إلا وفاء المصريين لقادتهم العظام، سواء كانوا فى السُلطة أو خارجها، حين يوافيهم الموت.
ويُفسر بعض عُلماء الاجتماع، مثل الراحل سيد عويس، تِلك الظاهرة، بأنها جزء من معتقدات المصريين فى الخلود والبعث فى حياة أخرى، وأن الله هو الذى سيُحاسب الناس فى الآخرة.
وقد سبق تِلك المعتقدات المصرية الفرعونية ظهور الأديان السماوية الثلاثة بألفى عام. وجاءت تِلك الأديان بمعتقدات مشابهة، فتلقاها المصريون بالقبول، وخلطوها بما كانوا قد توارثوه بالفعل.
طافت بخواطرى كل تِلك المعانى، وأنا أتابع الجنازة الرسمية المهيبة للرئيس الأسبق محمد حُسنى مُبارك. فرغم أن سنواته العشر الأخيرة فى السُلطة كانت قد شهدت تزايد السخط والغضب، من طول بقائه فى السُلطة، ثم ما أشيع عن مخطط لتوريث تِلك السُلطة لأحد أنجاله، على نحو ما كان قد حدث فى سوريا من توريث للسُلطة من الأب حافظ الأسد إلى نجله بشّار الأسد. وهو السخط الذى لم يعتده مبُارك، حتى انفجر ذلك الغضب الشعبى فى ثورة غير مسبوقة، منذ ثورة 1919. وهو الأمر الذى أدرك معه حُسنى مُبارك أن بقاءه فى السُلطة يمكن أن يؤدى إلى مزيد من العُنف والدماء، ففضل التنحى عن السُلطة.
وقد حسب له الرأى العام المصرى ذلك فى ميزان حسناته، وخاصة فى ضوء ما حدث فى بُلدان عربية شقيقة. وبنفس ثقافة المصريين الدينية فى ذِكر محاسن موتاهم، تذكروا دور حُسنى مُبارك فى إعادة بناء سلاح الطيران، فى أعقاب الهزيمة المروعة عام 1967، والتى بدأت بتدمير إسرائيل معظم طائرات مصر، من مُقاتلات أو قاذفات، وهى على الأرض فى الصباح المُبكر ليوم الخامس من يونيو 1967. وهى المهمة التى عهد بها الرئيس الراحل جمال عبدالناصر للعميد الطيار محمد حُسنى مُبارك، وجدد الرئيس أنور السادات نفس التكليف للرجل.
ثم إنه كان، ثالثاً، الذى قاد الضربة الجوية الأولى ضد قوات وتحصينات إسرائيل فى سيناء، يوم السادس من أكتوبر 1973، والتى مهّدت لعبور القوات المصرية قناة السويس، واجتياح خط بارليف الحصين، الذى كانت إسرائيل قد شيّدته خلال السنوات الست السابقة.
وأخيرًا، يذكر المصريون والعرب أن حُسنى مُبارك لم يدخل فى معارك كلامية أو دعائية ضد أى من الأشقاء العرب، بل كان على الدوام عونًا لمَن طلب من هؤلاء الأشقاء مساعدة مصر، مثلما حدث فى حرب تحرير الكويت، بعد أن اجتاحها صدام حسين فى أول أغسطس عام 1990.
ثم إن المصريين منذ الفراعين القُدماء، قبل خمسة آلاف سنة، كان لهم تقاليد جنائزية مهيبة فى توديع موتاهم، والعبور بهم من شرق النهر الخالد، إلى الشاطئ الغربى للنيل، اعتقاداً منهم أن الشمس تظهر من الشرق كأنما بداية الحياة، وتختفى فى الغرب، كأنما نهاية الحياة.
فرغم ما شاب سجل حُسنى مُبارك من خطايا فى السنوات العشر الأخيرة من الثلاثين عاماً التى حكم فيها مصر، إلا أن المصريين كالعادة يبدو أنهم نسوا أو تناسوا أو سامحوا رئيسهم الأسبق، وحزنوا عليه بعد رحيله.
فالدعوات المستحقات لرئيسنا الراحل بالغُفران، والصبر والسلوان لأرملته الفاضلة سوزان ثابت، ولنجليه الكريمين علاء وجمال.
وعلى الله قصد السبيل.
عن المصري اليوم.