تصلّب الموقف المصري تجاه قافلة "شريان الحياة 3"، ورفض المسؤولين تقديم أي "تنازلات" في سبيل مرور القافلة عبر ميناء نويبع، وإصرارهم على عودة القافلة مسافة كبيرة، برّاً، ثمّ بحراً، كل ذلك مثير للتساؤل والحيرة.
الحكومة المصرية لم تكن مضطرة للاصطدام بالرأي العام العالمي والعربي والإسلامي، وحتى المصري، أو أن تخوض معارك وهمية مع قافلة مزوّدة بالمؤن الإنسانية، وتحظى بتعاطف دولي.
المراقب المحايد يمكن أن يدرك أنّ الحكومة المصرية دفعت "ثمناً مجّانياً" من صورة مصر وسمعتها، ليس فقط في العالم العربي والإسلامي، بل حتى في المجتمع الدولي، والرأي العام الأوروبي المهتم بغزة.
في المقابل، فإنّ تركيا، التي تمتلك بوصلة سياسية دقيقة، حققت مكاسب مجانية على ظهر النظام الرسمي العربي. فهل تحتاج "قافلة إنسانية" للمرور عبر مصر إلى غزة لوساطة تركية؟! وهل تريد تركيا أكبر من هذه الجائزة أمام الرأي العام العربي والإسلامي، ليتضاعف رصيد "قوتها الناعمة" ولتأكيد نظرية "الفراغ الاستراتيجي "في المنطقة"؟!
ما يزال بعضهم يحيل "التشدد المصري" إلى الضغوط الإسرائيلية. ذلك لا يبدو مقنعاً، فإسرائيل ليست معنية فيما إذا كانت القافلة ستدخل عن طريق نويبع أم العريش، طالما أنّ الحديث يقع في دائرة "سيادة الدولة".
"معاقبة حماس" أكثر إقناعاً في تفسير الموقف المصري، إذ يتوازى ذلك مع عملية بناء "الجدار الفولاذي"، واستصدار فتوى الأزهر بمشروعيته. فما يحدث بمثابة "رسالة" واضحة لحماس بأنّ مصر هي التي تمتلك أوراق غزة، ولديها القدرة على إضعاف حماس وتقويتها وعزلها، وأنه لا بديل من الإذعان لما تريده القاهرة، لا ما تقوله طهران أو دمشق، وذلك بعد الغضب المصري من رفض حماس التوقيع على الورقة المصرية.
يعزز من "التشدد" المصري الشعور بجرح "الكرامة"، الذي أصاب المسؤولين المصريين خلال الشهور الأخيرة، وقد تفاعل مع تداعيات مباراة مصر والجزائر، بالتزامن مع الجدل الداخلي حول انهيار مكانة مصر الإقليمية، والأزمة الداخلية الضاغظة على أعصاب القيادة المصرية، ما انعكس بصورة مبالغة على الموقف من القافلة ومن الجدار الفولاذي.
لا جدال في أهمية الدور المصري وحيويته على الصعيد العربي، لكن ما يحدث مؤخراً مع حماس وقافلة شريان الحياة، يعزز القناعة باختلال هذا الدور، وغياب التوازن عنه. ما أدى، على ما يبدو، إلى عودة النشاط الدبلوماسي السعودي، خلال الأيام الماضية، في الملفات الإقليمية، وتحديداً الفلسطيني، في محاولة لإعادة بناء التوازن للموقف الرسمي العربي.
التصلب العربي المطلوب ليس مع حماس، بل مع الجانب الإسرائيلي، الذي ضرب بالرسائل الودية العربية والضغوط الأميركية عرض الحائط. والحملة الإعلامية الموجهة ضد إيران، اليوم، تأتي في الاتجاه الخطأ، وعلى حساب إمكانية تنويع الخيارات والرهانات العربية.
أمّا الحساسية العربية من الموقف التركي فغير مبررة، طالما أنّنا عاجزون بأنفسنا عن حماية مصالحنا الاستراتيجية أو على الأقل تعريفها بدقة.
m.aburumman@alghad.jo
الغد