ما إن فَرَغَ المذيع في دار الإذاعة الأردنية من قراءة برنامج (لُمَعُ الأخبار) في الساعة السادسة من فجر أحد أيام الزمن الجميل في مطلع السبعينيات حتى «هجمنا» نحن مجموعة من العاملين في دائرة الاخبار بالإذاعة على المذيع و"نتشنا» الصحف من بين يديه وكلنا لهفة لقراءة تفاصيل قرار اتخذه دولة رئيس الوزراء آنذاك السيد وصفي التل ويقضي بضرورة اجراء امتحان في الدبلوماسية للسفراء والعاملين في السلك الدبلوماسي والمتقدمين للعمل في وزارة الخارجية كشرط أساسي لولوج بوابة العمل في السلك الدبلوماسي.
وجاء في حيثيات القرار بأنه يأتي في سياق تفعيل دور العقل والعلم والدبلوماسية الناشطة في خدمة الوطن وقضيتنا المصيرية، وبأن امتحاناً تحريرياً في ميدان الدبلوماسية سوف يعقد خلال أيام ويليه امتحان شفوي باللغة الإنجليزية وتحت اشراف لجنة رفيعة المستوى.
حاصله.. تقدمنا للامتحان الكتابي الذي عقد في مدرج سمير الرفاعي بالجامعة الأردنية، نحن الثلاثة: العبد الفقير لله كاتب السطور وزميلاي في دائرة الاخبار بالإذاعة الأردنية السيدان شاكر عربيات وماهر النشاشيبي وبتوفيق من الباري عزَ وجل حققنا ثلاثتنا علامات عالية بين زملائنا المتقدمين لامتحان الدبلوماسية وبينهم عدد من السفراء العاملين!!
وفي غمرة النجاح شطَ بي الخيال وقلت في نفسي: معقول يا ناس!! أنا إبن الفلاح في محافظة الكرك التي تصنف مع مناطق الجنوب بأنها (الأقل حظاً) يحالفني الحظ واحصل على حقي أسوةً بالأخرين.. واشارك في منافسة دبلوماسية شفافة تضم السفراء وأولاد الذوات والكُبار (بضم الكاف) والمسنودين والمِسعدين وأتفوق على الكثير منهم بجهدي وليس بالواسطة؟! وقلت في حوار مع النفس: وَلِمَ لا؟ مادام الرمز الكبير وصفي التل نصير المظلومين والحراثين والغلابى موجوداً وحاضراً بقوة كصاحب ولاية عامة بحق وحقيق وليس للاستهلاك اللفظي والمحلي!!
(2)
وأذكر أنني هاتفت والدي لكي ابلغه بنجاحي في امتحان الدبلوماسية، وبالكاد سمعت صوته لان الاتصال الهاتفي بين العاصمة عمان ومحافظة الكرك كان ضعيفاً ويتقطع باستمرار وما زلت اذكر كلمات والدي رحمه الله المجبولة بالفرح والندى وهو يقول: الله يبطئ أيامك يا وصفي.. ويخليك يا أخو علياء ذخراً للوطن والناس!! مبروك يا ولدي نجاحك في الدبلوماسية!!
ومن طريف ما يذكر على هامش امتحان الدبلوماسية أن أحد الدبلوماسيين العاملين لم يحالفه الحظ في النجاح في الامتحان التحريري فتقرر نقله على الفور الى وزارة أخرى. وجاء وفد من احدى المدن في شمال المملكة للتوسط لدى رئيس الوزراء وصفي التل في أحد أيام الثلاثاء حيث كان يقابل المواطنين ويلبي احتياجاتهم وقال لهم: خير ان شاء الله!! ماذا تريدون؟! فقال متحدث باسم الوفد: جئنا يا أبو مصطفى اليك من اجل التوسط لإعادة (فلان) الى الخارجية.. فتجهم وجهه وقال للوفد بنبرة حادة: اسمعوا يا اخوان: الأردن مُش لوصفي التل وأبو وصفي التل.?هذا البلد الكبير بقيادته الهاشمية الحكيمة وناسه الطيبين لا مجال فيه إلا للمجتهدين والأكفياء والمتفوقين بجدارة، لذلك اشربوا قهوتكم. والله معكم. ولا تعيدوها.. انا ما عندي واسطة إلا الكفاءة!!وبالفعل ذهبوا ولم ينبسوا ببنت شفه!!
وتقدمنا للامتحان الشفوي باللغة الإنجليزية وكان نجاحي بمثابة تحصيل حاصل وكذلك زميلاي شاكر وماهر-القريبان الى قلبي واللذان أصبحا فيما بعد سفيرين فاعلين لبلدنا الأردن في عدد من الدول الشقيقة–حيث أنني احمل شهادة البكالوريوس في اللغة الإنجليزية وآدابها من جامعة دمشق في نهاية الستينيات حيث تتلمذت على أيدي أساتذة اميركان وانجليز الى جانب الأساتذة العرب الأكفياء. كما انني احمل دبلوم إعلام واتصال جماهيري بمرتبة الشرف من جامعة(سيراكيوز) بولاية نيويورك الأميركية.
(3)
ما علينا.. لم تدم فرحتي بالامتحانين التحريري والشفوي فقد وقع مالم يكن في الحسبان اذ رحل الرمز الكبير وصفي التل نتيجة مؤامرة دنيئة استهدفته وهو يؤدي الواجب الوطني والقومي بكل بسالة.
واجتاح زلزال من الغضب والحزن كافة أرجاء الوطن.. نعم حَزِنَ الوطنُ والناسُ على رحيل وطنٍ من لحم ودم!! ورأينا الدموع تنهمر من عيني المغفور له جلالة الحسين العظيم طيب اللهُ ثراه وهو يؤبن الراحل الكبير شهيد الوطن والأمة والقضية!!
ووجدتني لأول مرة في حياتي أذوق مرارة اليُتم ووجع القلب وأسلَمَتني هذه الحالة الى موجة من الزهد والصوفية اجتاحت وجداني وملأت كياني!! وذقت مرارة أصعب أنواع الرحيل وهو أن يرحل الرمز الغالي عنك ولا يرحل منك!!
ونسيت النجاح.. إذ لم يعد يملأ عيني شيء بعد رحيل وصفي!! وتناسيت الالتحاق بالخارجية.. لا بل عَدلتُ عن الأمر برمته لان من أعطى الحق لي ولغيري ولأمثالي من أولاد الفلاحين والحراثين والغلابى قد رحل!!وهيهات أن يجود الوطن الأردني والعالم العربي بمثله.. هيهات!! وماذا عساي أفعل بالحظ والنجاح بعد رحيل وصفي ؟!فأسلمت روحي لمقصلة العزلة.. فهي الوطن والسكن للأرواح المتعبة!!
وتشاء الصدفة المحضة بعد سنوات معدودة أن نلتقي أنا وشريكي في الهم والحزن ووجع القلب الأستاذ طارق المصاروة رحمه الله مع الصديق العزيز سيادة الشريف عبد الحميد شرف تغمده الله بواسع رحمته وذلك بطلب منه حيث شجعنا على الانخراط بقلمينا وقلبينا في عالم الصحافة.. ولم أكن متحمساً للأمر في البداية خوفاً من أن أغرق في بحر من الديون سيما وان المبلغ المطلوب لدخولي كشريك في احدى الصحف لم يكن بمقدوري.. لكن الصديق اللدود (طارق) ظل يُلح علي وينقر في مُخي الى ان وافقت!! ووجدتني أرهن أرض والدي في الكرك وبيتي في عمان للحصول على?القرض المطلوب من البنك!!
حاصله.. دخلنا–مشنشلين بالديون–طارق وانا شركاء وعاملين في الشركة الأردنية للصحافة والنشر(الدستور) الى جانب الغالي وصاحب القامة الإعلامية والسياسية الباسقة محمود الاسم والسيرة الأستاذ محمود الشريف الذي عاد للتو من دولة (قطر) بعد ان كان يعمل مديرا للإعلام في الدوحة!! وللأمانة فقد أدهشني (أبو شوقي) وكنت مبهورا به خلال مسيرتنا الصحفية معاً.. واكبرت فيه وفاءه للرمز الكبير وصفي التل وانصافه لدوره الوطني والقومي الشجاع.. وما زالت صورة اخي محمود الشريف ماثلة في مخيلتي وهو يدلي بشهادة كان يغرفها من مخزون وجدانه الصا?ق خلال ندوة بعنوان (وصفي التل.. فكره ومواقفه) عقدت في العام 1996 م واقتبس منها بضعة أسطر يقول فيها عن الشهيد وصفي التل: (شرفت بالعمل مع الفقيد الكبير وصفي التل والقرب منه.. وكان يبهرني بما وهبه الله من حدة الذكاء واشراق في البصيرة.. وكان نموذجاً يحتذى في الرجولة والشجاعة والوطنية وصدق الانتماء ومثلها الأعلى في تحمل المسؤولية وادارة الحكم بالعدل والأمانة والنزاهة وطهارة اليد ونقاء الضمير. وكان له فلسفة خاصة بالحكم سبق بها أهل زمانه.. وكان (وصفي) يحالف الناس ويخالفهم من اجل فلسطين التي كان مسكوناً بِهمها حتى?اخر رمقٍ في حياته).. انتهى الاقتباس.
وللأمانة أيضا فقد تعلمت الكثير من (أبى شوقي) رحمة الله عليه في مجال هيبة الكلمة المطبوعة وبهاء دور الرصاص -اقصد رصاص المطبعة -عندما يتحالف طوعاً مع القلم النظيف والضمير الحي والوجدان القومي!! مثلما تعلمت منه ومن القامة الإعلامية الشامخة وصاحب الشهامة البدوية المهيوبة شيخنا الحاج جمعة حماد رحمه الله.. تعلمت منهما الصبر واجتراح البسمة على الشفة فيما القلب في الداخل ينزف دماً!! وتعلمت منهما وشاركتهما الصبر على جَورِ بعض كبار المسؤولين الذين يتعاملون مع الصحافة بازدواجية لا تخطئ دلالتها البصيرة!! ففي الوقت الذ? يكنون فيه التقدير لرجالات ورموز وأعمدة الصحافة ومصافحتهم باليد اليُمنى تجدهم في الوقت ذاته يضمرون في اليُسرى خِنجر الغرامات والاغلاق والتقليل من شأن الصحافة كسلطة رابعة ورادعة!!
(5)
وتعلمت الكثير من بيدر الحياة الصاخب.. وملازمتي لبلاط الكلمة المطبوعة اللصيقة إلى قلبي... ورأيت وسمعت الأكثر من غَثٍ وسمين!! فقد سمعت فيما سمعت، بوح بعض الأقنعة وهي تشكو قبح وظلم لابسيها المنافقين!! ورأيت، فيما رأيت بعض الأقلام وهي تشكو رخص حامليها!!
ورأيت كيف يذبح الطين صِنوَهُ الطين.. وكيف يستقوي الطين بالطين كي يظلم الطين!! وكيف يشوف الطين حاله على الطين، مع أن الكل-بلا زُغره-من الطين مجبولون والى الطين عائدون!!
وفي الختام أقول: يا وصفي!! أيها الرمز الكبير.. يا وطناً من لحمٍ ودم. كم نشتاق اليك؟ يا أخو علياء: ان أصعب الرحيل هو من يرحل عنك ولا يرحل منك!! يا وصفي أيها الحبيب: عندما تسطع الشمس يتوارى زُحل !!وشمسك يا ابن الأكرمين دوماً ساطعة!!
أقول هذا لمن يتجاسر أو يحاول النيل من بهاء دورك وشمس هيبتك ورفعة قدرك وفروسيتك المضمخة بدم الشهادة!! فشتان بين من يُسطر تاريخاً باهراً بعندم دمه وبين من يتسلح بطق الحنك ولغو الكلام!! شتان!!
الرأي