كنت في الماضي القريب أو في فترة طفولتي أتغنى بالنيل والفرات ، أرى هاتين الحضارتين حكاية التاريخ ، وللفرات تحديدا ارتباط وثيق بثقافتي ،عبر محاولتي لمتابعة القطب الفارسي الذي شكل خصماً عتيداً للقطب الأشقر الأوربي بأسمائه المتعددة أو تواجد أوراق كثيرة من التاريخ ضمن هذه البقعة التي ظلت حضارة حتى آخر جاءها الأمريكان . ولعل التاريخ الإسلامي الذي ابتدأ بعد "القادسية" بإعطاء مفصل مهم لهذه المنطقة اكتمل تأثيره مع بناء بغداد التي شكلت محورا مهما للأحداث المتعاقبة على المنطقة بعمومها .
أحيانا أتسأل هل هناك لعنة يصدرها الفرات منذ صراخ حفيدات النبي وهن يصرخن على جز رقبة الحسين ، أم أن هذه الحضارة مستهدفة أصلا لأنها تحمل بين طياتها عظماء التاريخ الإسلامي بعد أن شكل البغداديون رمزاً ثقافيا ،وصارت الكوفة وبغداد عواصم للعلم والجامعات وتخريج أفذاذ الرجال .
هناك لعنة تلاحق هذه المدينة التي اعتادت على سكب الدماء في ماء نهرها، كيف وقد بينت حجارتها فوق أجساد بني قبور بني أمية الذين اجتثوا على يد السفاح بغير رحمة ، ولم يخل العرق كل الدماء ل\التي أسقطها الحجاج هدرا فوق رمال الصحراء أو أضافها وحوش التتار إلى ماء الفرات بذخا وكفراً.
فما يحدث الآن في العراق جعلنا نبحث عن أسرار الأساطير والميثولجية وتاريخ اللعنات، لأننا لا نصدق ما يحدث من موت هستيري ، تعدى التخمينات التي توقعناها لملاحم أخز الزمن .
المشهد يُعجز التعبير، ويغلق التفسير، ويسد التأويل، يكفيك أن تجلس بأي وقت لتشاهد نشرة الأخبار و ما يليها من ملاحم العراق .
ما يحدث بحق مجزرة تاريخية في عصر حضاري تم به شفط معاني الإنسانية مثل أية دولة يغضب الله عليها فيسلط أمريكا على أرضها .
هذا حال أي أرض تدوسها أقدام "الانجلو ساكسون" الذين دمروا الهنود الحمر وأخجلوا الإنسانية مما فعلوه في فيتنام وهاهم يغتالون أو يشنقون أو يمزقون حضارة الرافدين .
لم يتبق شيء ،الموت يمسك منجله ويحصد الأرواح بشكل أعمى، لا أحد يستطيع تبرير الحدث ، الانفجارات في كل مكان ،حيث لم يعد زاوية يختبيء بها الأمان.
منذ اليوم الأول سرقت النخوة العراقية فوقفت دبابتان على جسور بغداد وكأنها أمام مقبرة ،مدينة صامتة تحولت لمعصرة ، تهرس أجساد الأطفال ،الرياضيين ، التآخي الشيعي السني الذي لن يعود يوما، المتاحف المراقد ، أوراق الكتب التي كانت تنام مطمئنة على أرصفة شارع حيفا .
حتى ذلك الرجل الذي عاش متعبدا لله ساكنا بين تصوفه مبتعدا عن الدنيا ولعناتها الشيخ عبد القادر الكيلاني أو الجيلاني كما يعرفه البعض لم يهنأ قبره ففجر مسجد يحمل اسمه والمتهمون كثر .
أنه القتل من أجل لاشيء ، هذا ما يفهمه حثالة العالم الذين زجت بهم أمريكا عبر عصاباتها في العراق ، وهذا ما يفهمه كل من فرق الموت الذين ينكلون بجسد احدهم لأن ذنبه الوحيد أسم من ثلاثة حروف "عمر" أو انتمى وراثيا وقد يكون بعيدا كل البعد عن مسمى "السنة" أو قد يحتاج رجل من القاعدة لتفجير نفسه بين عزاء شيعي لينتسب أو ليرفع حالا إلى فئة الفرقة الناجية .
وعلى جميع الكوارث فأن حضارة الفرات تتجه إلى الانقراض بعد أن تسحق قلبونا عبر أشعة قنوات الفضاء .
Omar_shaheen78@yahoo.com