فنانات تشكيليات وفوتوغرافيات فى معترك العمل السياسي
د.ماهر داود
24-02-2020 10:09 AM
على الرغم من أن رقة المرأة من عوامل اهتمامها واتجاهها للفنون، وللفن التشكيلي على الأخص، فإن من الفنانات التشكيليات من اتجهن إلى ميدان النضال النسائي السياسي عبر لوحاتهن وأعمالهن، ولم يُثنهن عنه ما لاقينه من العذاب أو الانتقاد والاعتراض والشجب في سبيل رؤيتهن لحقوق المرأة والإنسان والمهمشين وحرية الفكر .. القائمة طويلة ومن أشهرهن نجد المصرية إنجي أفلاطون، والسورية راندا قسيس، والإيرانية شيرين نشأت.
ولدت إنجى حسن أفلاطون فى 16 أبريل 1924، من عائلة أرستقراطية ذات ثقافة فرنسية. كان والدها، حسن أفلاطون، مؤسس قسم علم الحشرات وعميد كلية العلوم فى جامعة القاهرة، أما والدتها صالحة أفلاطون فقد كانت تعمل فى أنشطة اللجنة النسائية فى الهلال الأحمر المصري. افترق والداها وهى فى سن صغيرة، وشهدت افتتاح والدتها لأتيلييه للأزياء بالقاهرة، فكان صبر والدتها وعزمها وحرصها على استقلاليتها كامرأة مطلقة عاملاً مهما فى تشكيل وجدان إنجي.
بعد إنهائها شهادة الثانوية الفرنسية بمدرسة القلب المقدس بالقاهرة، كانت إنجى واحدة من أوائل النساء اللاتى التحقن بكلية الفنون الجميلة، فر عام 1942 التحقت بمنظمة الشيوعية الشرارة (إيسكرا). وكانت فى 1945 من مؤسسى "رابطة فتيات الجامعة والمعاهد". نشرت العديد من الكتب، بما فيها "80 مليون امرأة معنا" و"نحن النساء المصريات" فى سنتى 1948 و1949 على التوالي. على إثر التقائها بالمثقفة والمناضلة النسائية سيزا نبراوى سنة 1950، إلتحقت أفلاطون بـ"لجنة الشابات بالاتحاد النسائى المصري". فى عام 1951، ساهمت مع سيزا نبراوى وعدد من المناضلات فى تنظيم "اللجنة النسائية للمقاومة الشعبية". سافرت فى منتصف الخمسينات إلى صعيد مصر، النوبة والواحات، واستلهمت كثيراً من مشاهد الحياة اليومية فى الريف. أصبحت رسومها فى أواخر الخمسينات أكثر التزاماً بالمواضيع السياسية، ونتج عن نشاطها السياسى اعتقالها سرّاً فى آذار/ مارس 1959 فى زمن حكم جمال عبد الناصر، مع خمس وعشرين امرأة من المناضلات. سجنت أفلاطون لمدة أربع سنوات ونصف السنة وكانت تمارس الرسم طوال فترة سجنها. أفرج عن إنجى فى تموز/ يوليو من العام 1963. بعد خروجها من السجن، أصبح الرسم نشاطها الرئيسى حتى وفاتها سنة 1989. تواصلت رحلتها فى الدفاع عن حق المصريين فى الحياة والحرية، وزاد اهتمامها اهتمامها بقضايا وحقوق المرأة، سواء من خلال إبداعاتها ورسوماتها الفنية، أو من خلال نشاطها فى المجتمع المدني، أو من خلال الكتب التى أصدرتها عن هذه القضية.
وخلال مذكراتها التى صدرت تحت عنوان «مذكرات إنجى أفلاطون.. من الطفولة إلى السجن»، يمكن أن تقرأ صفحات من تاريخ مصر السياسى والاجتماعي، وأن ترصد كفاح أبنائه فى سبيل الحرية والكرامة وتحقيق الذات. ففى تلك المذكرات تحكى إنجى أفلاطون جوانب من تاريخها الشخصى الذى هو فى الوقت نفسه تاريخ «مصر» وتاريخ وعيها وثورتها من عشرينيات وحتى «ستينيات» القرن الماضى، حيث التاريخ الشعبى مضفرا فى التاريخ الرسمى، فمصر تواجه العالم فى العدوان الثلاثى ونساء مصر يواجهن النظرة المتدنية لهن. تقول إنجى أفلاطون: "أدركت لأول مرة ولم أكن قد تجاوزت الاثنى عشر ربيعاً أن التمرد حالة ضرورية للتصدى فيما بعد للظلم الذى وقع عليّ. وقررت أن أبدأ. ومن هنا أستطيع أن أقرر دون فخر وأيضا دون تواضع أن التمرد كان السمة التى لازمت حياتى".
ومن أشهر لوحات إنجى أفلاطون: جمع الذرة، حاملة شجرة الموز، جمع البرتقال، الشجرة الحمراء، سوق الجمال، صياد بلطيم. وقد صدرت لها عدة مؤلفات من بينها كتاب بعنوان (80 مليون امرأة معنا) 1947، و(نحن النساء المصريات) 1949، وكتاب (السلام والجلاء) 1951.
رندا قسيس: ربما تدفعها نفسها الثائرة الممتزجة بروح الإحساس الفطرى الأنثوي لإنشاء مجتمع عادل
ومن الارستقراطية المصرية وحراكها السياسى الرائد والتاريخى من فترة الأربعينيات حتى الستينيات من القرن العشرين، ننتقل إلى سوريا بوجه أنثوى حديث فيه ثقافة القرن الحادى والعشرين حيث نجد ناشطة بدأت بالفن التشكيلى للتعبير عن إيمانها بأن تطهير المجتمعات كلها من ثقافات الطغيان والظلم هى أساس إنشاء مجتمعات إنسانية عادلة تنبض بروح الديمقراطية، تلك هى رندا قسيس.
ولدت رندا قسيس بدمشق فى سوريا عام 1970، وهى تعد أحد رموز الفكر العلمانى العربى المعاصر، وفى عالم السياسية تتولى الآن رئاسة منصة آستانا السياسية ورئيسة حركة المجتمع التعددى والرئيسة السابقة للهيئة العامة للائتلاف العلمانى الديمقراطى السوري المناهض للنظام الحالى فى سوريا.
بدأت رندا قسيس حياتها المهنية كفنانة تشكيلية، لها العديد من اللوحات حيث أقامت العديد من المعارض الفنية فى الشرق الأوسط وأوروبا فى محاولة منها لاستخراج التجارب الفردية والجماعية الموجودة فى ثقافات عدة بهدف الوصول إلى خلق نموذج جديد من الإنسان، واكتشاف الحياة المترابطة مع الحرية بشكلها الواسع وليس بمفهومها الضيق الذى لا يتجاوز سلوكيات معينة، باحثة عن أداة للتعبير تستطيع من خلالها الغوص فى الأعماق لاكتشاف الحياة من خلال البحث المستمر عن المعرفة والمحاولات المكثفة لتوسيع الإدراك.
كانت بدايتها الحقيقية فى دخول عالم الفن التشكيلى فى مرسم أو أتيليه شقيقها، حيث قالت إن ذهابها المتكرر لمرسم (أى رندا) أخيها قد دفعها إلى خوض تجربة التعبير عن أفكارها، هناك تعلمت التواصل مع اللوحة حيث بدأ الرسم يغزو حياتها وعقلها ويتلاءم منهجها الفكرى والثورى مع مسار الرسم، لتصبح إيقاعاتها الحياتية تتناغم مع الريشة واللوحة.
وتستطرد رندا فى التعبير عن مرحلة الفن التشكيلى من حياتها قائلة إنها كانت تحاول على الدوام استنباط نمط فنى جديد خاص بها، وقد نجحت فى ذلك حيث سجلت أسلوب رسم “العاري المستخبي” باسمها، وقد اتضح ذلك جليا فى كثير من اللوحات التى رسَمَتها حيث قد عبرت بشكلٍ لا واع عن نفسها، وكانت لوحاتها النسائية الممزوجة بالفضاءات الواسعة هى أكثر اللوحات التى مثلتها.
لكن مع ذلك، فإن نفسها الثائرة ورفضها لأنماط التخلف السياسى والفكرى فى المنطقة العربية جعلها تبتعد عن الرسم تدريجيا لتلجأ إلى تبنى أداة مختلفة للتعبير عما يجول فى عقلها ورؤيتها وطموحها، ولطرح الأفكار التى تؤرقها من خلال القلم والكتابة.
غيرت رندا مسارها التشكيلى واتجهت إلى المسرح فى باريس، منه رأت أن استكشاف نفسها من جديد لا يتم إلا من خلال الكتابة المرتكزة على العلوم الإنسانية، أما اللوحات فأصبحت بالنسبة لها جزءاً من الماضى ساعدها على التغيير لانتقاء ما يناسبها من أفكار ومفاهيم ساعدتها على تحديد طريقها، ومن مؤلفاتها سراديب الآلهة (2012)، الفوضى السورية (2014)، من الثورات العربية حتى الجهاد العالمى (باللغة الفرنسية) (2016)، سوريا وعودة روسيا (باللغة الفرنسية) (2018). كما أن لها العديد من المقالات السياسية والعلمانية والانثروبولوجية المنشورة على شبكة الإنترنت، وموقع بلغات مختلفة.
ربما يحمل المستقبل فى طيِّه كنوزاً فنية تشكيلية ستبدعها راندا قسيس عن المرأة فى المجتمعات العربية، رغم انشغالها فى الفكر والمنتديات والمعترك السياسى وقضية سوريا. إن نفس المرأة تحمل فى داخلها كنوزاً كامنة، ولا أستبعد أن رندا ستتحفنا بلمحة مستترة من فنها وريشتها، تدفعها إليها نفسها الثائرة الممتزجة بروح الإحساس الفطرى الأنثوي، ولو فى لحظة فراغ بينها وبين نفسها.
شيرين نشأت: تصور الوجوه والأقدام بأسلوب مباشر يجعلها تبدع فى إيجاد اتصال مؤثر بين الموضوع والمشاهد
ومن سوريا إلى إيران، يبين الفن النسوى فى معترك السياسة من منطلق خلفيّتين ثقافيتين مختلفتين تماماً، الغرب والتطرف الإسلامى الفكري، تلك هى شيرين نشأت (أو شيرين نشاط باللغة الفارسية)، التى تعود شهرتها الفنية فى المقام الأول لأعمالها فى مجال الأفلام والتصوير الفوتوغرافي. وتركز أعمالها الفنية على التناقضات بين الإسلام والغرب، والأنوثة والذكورة، والحياة العامة والحياة الخاصة، والعصور القديمة والحداثة، وسد الفراغات بين كل تلك الموضوعات.
ولدت شيرين نشأت فى مدينة قزوين بشمال غرب إيران عام 1958، فى عائلة مسلمة تمتعت بالدفء والرعاية. كان والدها طبيبا يحب رومانسية الغرب، وقد اتخذت شيرين من مسلكه العقلى الغربى نموذجاً لها، ولذلك قد شجعها على أن تمارس استقلاليتها كفرد مسئولٍ عن تصرفاته وآرائه مثل النساء الغربيات. غادرت شيرين إيران فى العام 1975 لدراسة الفنون الجميلة فى جامعة كاليفورنيا بيركلى حيث حصلت على الماجستير عام 1983، ثم استقرت فى مدينة نيويورك. فى العام 1990، عادت شيرين إلى إيران للمرة الأولى، وكان ذلك فى ظل نظام الثورة الإسلامية التى اندلعت بقيادة الخمينى عام 1979 أثناء دراستها بأمريكا، وبعد انتهاء حرب العراق وإيران مباشرة. كانت رحلة وجيزة إلى بلدها الذى تتذكره بالكاد. وعن ذلك تسجل الكاتبة الأمريكية ليندا فايتراوب فى كتابها "خيارات معاصرة للفن المعاصر": أن شيرين تصف تجربة عودتها إلى إيران أنها ربما كانت واحدة من أكثر التجارب المروعة التى مرت بها على الإطلاق.
كان اللقاء مع هذا البلد الذى أسمته شيرين نشأت أنه وطنها، سبباً فى نقطة تحوّل فاصلة فى حياتها، غيرت علاقتها بوطنها الحالي، أى الولايات المتحدة الأمريكية. آنذاك سيطر مشهد المرأة التى ترتدى «الشادوري» على المدينة، وارتدت المبانى صور الشهداء. غيّرت الثورة الإسلامية البلاد تماماً، وجاء النظام الإسلامى بالمفهوم الإيرانى ليحدد ملامح حياة الشعب، المأكل والمشرب والملبس. فكان ذلك هو عتبة دخولها إلى العالمية، حيث استلهمت مما رأته فى تلك الزيارة مجموعتها الفوتوغرافية الأولى "نزع الستار " و"نساء الله" (1993-1997)، والتى يمكن وصفها كأيقونات، ركزت الفنانة على وضع المرأة الإيرانية التى عانت من مجتمعها فى فترة الحرب العراقية – الإيرانية، موضحة أن المرأة ظُلمت باسم الدين وتعرضت لضغوط.
لاقت تلك المجموعة نجاحاً كاسحاً فى المعارض الغربية، وما زال صداها يتردد فى أعمال فنانين كثيرين حول العالم منذ ذلك الوقت. وقد رأت شيرين أن تعزز أعمالها الفنية الفوتوغرافية بعمل أفلام قصيرة، فأنتجت فى الفترة 1990 – 1999 أربعة أفلام قصيرة. فى الفترة 2001-2002، تعاونت شيرين نشاط مع المغنية والملحنة الإيرانية سوسن ديهيم وأثمر هذا التعاون "منطق الطير" (Logic of the Birds)، وهو عمل فنى متعدد الوسائط تخدم شيرين الصوت والموسيقى فى عملها هذا وفى أعمال أخرى من أجل تصميم قطعة جذابة ومثيرة للعاطفة يتردد صداها فى آذان المشاهدين من الثقافات الشرقية والغربية على حد سواء. فى عام 2009 فازت بجائزة الأسد الفضى لأفضل مخرج فى مهرجان البندقية السينمائى السادس والستين، وذلك عن أول ظهور لها فى الإخراج لفيلم "نساء بلا رجال"، استناداً إلى رواية شهرنوش بارسيبور (shahrnush Parsipur) التى تحمل نفس الاسم.
ويمكن القول بدراسة أعمالها التصويرية والفيلمية أن شيرين نشأت تركز فى أعمالها الفنية، على الجسد الإنساني، خاصة الجسد الأنثوي، كونه ظل على الدوام مثيراً للجدل بسبب سوء فهم الثقافة الإسلامية فى الشرق والغرب، مستخدمة بذلك الصور الفوتوغرافية وابتكارات بصرية تعكس المفارقة بين الجمال والعنف، حيث تحاول نشأت من خلال أعمالها البصرية والصوتية أن تفهم الحالات العاطفية والنفسية للنساء اللاتى يعشن فى ظل بيئات دينية متطرفة، ومعالجة التناقضات المتأصلة فى الإنسانية من خلال استحضار الفنانة للتاريخ وبناء وتدمير الحياة والعلاقات، وفى سياق ذلك المفهوم تصور شيرين نشأت الوجوه والأقدام أمام الكاميرا الخاصة بها بقرب شديد، وأسلوب مباشر وملحوظ مما جعلها تبدع فى إيجاد اتصال مؤثر بين الموضوع والمشاهد.