في حرية الكاتب .. في مسؤوليته
ابراهيم العجلوني
03-01-2010 02:34 PM
هذا كلام مقتبس في جملته وتفصيله من «الرافعي»، ومن كتابه «وحي القلم» في جزئه الثالث الذي جمع بعد وفاته رحمه الله.
لقد وقف الرافعي ملياً أمام الحديث النبوي الشريف: «إن قوما ركبوا في سفينة، فاقتسموا، فصار لكل رجل منهم موضع، فنقر رَجُلٌ منهم موضعه بفأس، فقالوا له: ماتصنع؟ قال: هو مكاني أصنع فيه ما شئت! فإن أخذوا على يده نجا ونجوا، وإن تركوه هلك وهلكوا».
وقف الرافعي أمام هذا الحديث الشريف فكان له في نفسه كلامٌ طويل عن أولئك «الذين يخوضون معنا البحر، ويسمون أنفسهم بالمجددين، وينتحلون ضروباً من الأوصاف: كحرية الفكر، والغيرة، والإصلاح؛ ولا يزال أحدهم ينقر موضعه من سفينة ديننا وأخلاقنا وآدابنا بفأسه، أي بقلمه، زاعماً أنه موضعه من الحياة الاجتماعية يصنع فيه ما يشاء، ويتولاه كيف أراد، موجهاً لحماقته وجوهاً من المعاذير والحجج، من المدنية والفلسفة، جاهلاً أن القانون في العاقبة دون غيرها، فالحكم «هنا» لا يكون على العمل بعد وقوعه كما يحكم على الأعمال الأخرى؛ بل قبل وقوعه، والعقاب لا يكون على الجرم يقترفه المجرم كما يعاقب اللص والقاتل وغيرهما، بل على الشروع فيه، بل على توجّه النية إليه؛ فلا حرية هنا في عمل يُفسدُ خشب السفينة أو يمسه من قرب أو بُعد ما دامت مُلجّجَة في بحرها، سائرة إلى غايتها، إذ كلمة (الخرق) لا تحمل في السفينة، وهناك لفظة (أصغر خرق) ليس لها إلا معنى واحد، وهو (أوسع قبر)..».
ويستأنف الرافعي قائلاً: «ففكر في أعظم فلاسفة الدنيا مهما يكن من حريته وانطلاقه، فهو ها هنا محدود على رغم أنفه بحدود من الخشب والحديد، تفسيرها في لغة البحر حدود الحياة والمصلحة. وكما أن لفظة (الخرْق) يكون من معانيها في البحر: القبر والغرق والهلاك؛ فكلمة (الفلسفة) يكون من بعض معانيها في الاجتماع: الحماقة والغفلة والبلاهة، وكلمة الحرية يكون من معانيها: الجفاية والزيغ والفساد، وعلى هذا القياس اللغوي فالقلم في أيدي بعض الكتاب من معانيه: الفأس، والكاتب من معانيه: المخرِّب، والكتابة من معانيها: الخيانة..».
ونحن إذ نخلص من وقفة الرافعي هذه أمام الحديث النبوي الشريف، والتي جاءت في سياق مقالته الفذة عن «السمو الروحي الأعظم والجمال الفني في البلاغة النبوية»، إلى المنطق الداخلي الذي يحكمها، وإلى ما نراه من إمكان القياس عليه في مواجهة دعاوى التحرر والعلمنة والدمقرطة والحداثة (وما بعدها)؛ فإن بإمكاننا القول إن سفينتنا اليوم ممتلئة الجوانب بهذا النمط من «مقترفي» الحريات، وإن مآلات كثير من أعمال هؤلاء لا تختلف في قليل أو كثير عما حذّر الرافعي منه من هلاك المجتمع وتمزيقه إرباً..
ولقد يعجب المرءُ كيف يكون من معاني القلم الفأسُ الذي يخرق السفينة المجتمعية، وكيف يكون من معاني الكاتب المخرّب الذي يهوي على الأركان فيما لمجتمعه من بنيان، وكيف يكون للكتابة معنى الخيانة؛ ولكنه واقع مُرٌّ نبلوه اليوم كما كان يبلوه الرافعي قبل ثمانين عاماً.
على أن هذا العجب لا يلبث أن يحل محلّه الاعتبار والتدبر والإفادة الواجبة من المَثُلات. وذلك بعد أن يتبين المستبصر منا أن الأسباب واحدة على رغم تراخي السنين، وأن الكيد هو هو وإن اتخذ شعارات أو معاذير مختلفة، ناهيك بالرفد المرفود لكل حرية ملتوية، ولكل تجديد طائر لا قرار له، ولكل دعوى متنفجة مُستجلبة نساق بها الى مصارعنا -إلا من رحم الله- ذاهلين..
إنها نفحة رافعية تغتلي بها بداهِئُنا، وتحتشد أذهاننا، وكم للرافعي، جزاه الله كِفاءَ جهادِه، من نَفَحات..
السبيل.