التراث هو مصطلح واسع الدلالات وأي حديث حوله لا يغطي إلا زاوية صغيرة تشمل عددا محدودا من المفاهيم، ولحصر الفكرة في مجال يسهل التحرك فيه ضمن مقال صغير لا بد من وضع تعريف أو تصور مبسط للتراث لذلك سأنظر إليه باعتباره ميراث ضخم من العادات والتقاليد والمعرفة والفنون والقيم التي توارثتها الأجيال عبر الزمن.
ما يهمنا في هذه المساحة هو إلقاء الضوء على المواقف الجدلية المختلفة من التراث العربي الذي ينظر إليه الكثيرون بأنه تركة ثقيلة تعامل معها العرب بقدسية غريبة أعاقت التعاطي معه بطريقة عملية تمكن كل جيل من غربلته وفلترته بطريقة تزيل عنه كل ما علق به من موروثات خاطئة أو محددات حصرت موضوعاته الحساسة ضمن أطر قديمة وضيقة تحتاج فعليا لكسرها بجرأة وذلك للتعامل مع جميع الموضوعات حسب المقتضيات التي يفرضها علينا الواقع والفترة الزمنية بكل ما تحملة من تغيرات أو تطورات أو حتى تراجعات في مناحي كثيرة ومختلفة من الحياة.
المشكلة الحقيقية التي تعاني منها الشعوب العربية والإسلامية أنها خلطت بين التراث والدين بدرجة كبيرة جعلت من الصعب في كثير من الأحيان التمييز بين الأسس الدينية والموروثات التراثية وذلك لأنها أحاطت جميع الماضي بهالة من القدسية منعتنا من التعامل معه بتجرد وبواقعية فأصبح هذا الماضي مقدسا بكل ما يحمله من أحداث بل وشخصيات، فأنت في معظم الأحيان لا تستطيع تفكيك أو تحليل حدث تاريخي معين أو شخصية تاريخية معينة وذلك لارتباط هذا الحدث أو هذه الشخصية بالتاريخ الإسلامي الذي ارتبط تلقائيا بمفهوم الدين فحُرّم علينا نقده أو رفض أخطائه والتعامل معها على أنها جزء لا نرغب بتحميله على عاتق التراث.
وما ينطبق على الأحداث والشخصيات التاريخية أعتقد أنه ينطبق على الأحداث والشخصيات الاجتماعية أيضا فليست كل العادات والتقاليد التي ورثناها عن الأجداد مقدسة وتصلح لزماننا فعلى سبيل المثال لا الحصر ليست كل الأمثال الشعبية التي نتداولها بقدسية تحمل حِكما وصوابا دائما وليست كل عاداتنا حميدة وصحيحة وليس كل ما هو شعبي مقدس فإذا كان تراثنا الشعبي يحدد هويتنا الشعبية فلتكن هذه الهوية ضاربة فقط بالجذور البناءة وبعيدة تماما عن أشكال التخلف والجهل حتى تثمر هوية مشرّفة لنا جميعا.. إنّ رفضنا المطلق للتراث برمته سيتركنا دون جذور وسيُحتم علينا العودة للصفر في مراحل كثيرة أثناء خوضنا لأي تجربة حداثية ولكن هذا لا يعني بالضرورة التشبث بالمحصول المعرفي المحصور في الماضي كطريق وحيد للمستقبل في ازدواجية عجيبة نسمح لأنفسنا من خلالها بالتعاطي مع أدوات الحداثة الحسية وكل منتجاتها التكنولوجية بينما نحن بذات الوقت نلعن ونمقت الفكر الحداثي المعرفي ونرفضه.
تعددت الآراء والمدارس في التعامل مع التراث فبعضهم يرى أنه حِمْل ثقيل علينا التخلص منه برمته والسير نحو الحداثة دون أي التفاتةٍ للخلف، والبعض الآخر يرى أن التراث شيء أساسي ومقدس وهو هوية الأمم التي لا يجوز المساس بها والتخلي عنها أبدا وأن الماضي هو الطريق الصحيح الوحيد لرؤية المستقبل وتشكيله، أما المدارس الأخرى فترى أن التراث هو إرث ثقيل يجب قراءته قراءة غير متحيزة وغير مُستَبعِدة لأشكال أخرى من القراءات الأمر الذي سيمنحنا فرصة التعامل معه بذكاء فنحتفظ منه بما ينفعنا ونلقي عن كاهله كل ما يمكن أن يشكّل علينا عبئا يعيقنا عن اللحاق بباقي الأمم.