إذا جئت من مكان بعيد، ولا تعلم شيئا عن جغرافيا المنطقة وكياناتها السياسية وحدودها، فستعتقد للوهلة الأولى أن حديث تركيا عن العدوان السوري على إدلب، يعني ببساطة أنها مدينة تركية تتعرض لاحتلال سوري سافر.
لكن إذا تسنى لك فهم الحقائق من أهل المنطقة، وعرفت منهم أن إدلب هي مدينة سورية منذ فجر التاريخ، وقد دخلت إليها مؤخرا قوات تركية لحماية معارضة مسلحة هناك، جل عناصرها من أتباع تنظيم إرهابي كان يحمل في السابق اسم تنظيم النصرة التابع لتنظيم القاعدة، ثم أطلق على نفسه اسم “هيئة تحرير الشام”، ستشعر أنك كمن كان واقفا على رجليه وانقلب فجأة ليجد نفسه واقفا على رأسه.
سمح اتفاق سوتشي العام 2018 بين روسيا صاحبة اليد الطولى في سورية، وتركيا الراعية للجماعات المسلحة في الشمال السوري، للأخيرة بنشر نقاط مراقبة في محيط إدلب، وإنشاء منطقة منزوعة السلاح بعمق 15 إلى 20 كم، وفتح أجزاء من طريقين رئيسيين، ليصار بعد ذلك إلى إخراج المقاتلين “الإرهابيين”.
منطقة خفض التصعيد هذه كانت جزءا من خطة أوسع طبقت في عديد المناطق السورية، لتسوية الصراع العسكري بين الجماعات المسلحة والنظام السوري. وهي بكل تأكيد حالة مؤقتة، تنتهي بانتهاء الحاجة إليها. وبالفعل استعاد الجيش السوري السيطرة على معظم مناطق خفض التصعيد في سورية، ولم يتبق سوى إدلب، التي تحولت بفعل الأزمة إلى مستودع كبير لتخزين المقاتلين الأجانب والمنضوين تحت راية التنظيمات الأشد تطرفا من السوريين المدعومين من تركيا.
لم تسلم أنقرة بهذه الحقيقة، لأنها ببساطة لا تريد تسوية الأزمة في سورية والإقرار بانتصار النظام السوري في المواجهة المريرة مع التنظيمات المسلحة، وتسعى بكل السبل للمحافظة على نفوذها العسكري والسياسي هناك على أمل ابتلاع هذا الجزء العزيز من سورية، أو في أقل تقدير إبقاء نار الأزمة مشتعلة في الشمال.
تركيا اليوم تهدد برد عسكري على تقدم القوات السورية في أرجاء واسعة من محافظة إدلب، وتخير الجيش السوري بين الانسحاب من “أراضيه”، وتلك مفارقة لا مثيل لها في التاريخ، وبين مواجهة عمل عسكري واسع.
ينبغي القول هنا إن سورية ليست مسؤولة عما آلت إليه الأمور في إدلب، لأنها لم تكن في الأصل طرفا في اتفاق سوتشي. موسكو والقيادة الروسية هي المعنية والمسؤولة عن الاتفاق، وهي وحدها التي تتحمل التبعات المترتبة على العدوان التركي في العمق السوري، وعليها أن تجد مخرجا لسورية من هذه المواجهة مع تركيا.
روسيا وقفت إلى جانب سورية، وكان لدعمها العسكري والسياسي الأثر الأكبر في تجنيب البلاد مصيرا مجهولا. لكن ذلك لا يعني بالضرورة أن تظل سورية إلى الأبد ورقة في لعبة التنافس الدولي والإقليمي بين موسكو وخصومها الإقليميين والدوليين. ينبغي وضع حد لهذه المأساة، وضمان عودة السيادة السورية على كامل أراضي الدولة.
موسكو هي المسؤولة عن الاحتلال التركي لإدلب ولا يمكن مقايضة هذه المسألة بصفقات صواريخ أس 400، ومثلما أبرمت اتفاقا سمح للقوات التركية بدخول إدلب على موسكو أن تتوصل لاتفاق مع تركيا لخروج قواتها من هناك بأسرع وقت.
(الغد)