رسالة من صلاح الدين الأيوبي إلى ترامب ..
د. لؤي بواعنة
09-02-2020 09:46 PM
لا يختلف اثنان على أن ما فعله ترامب_ باطلاقه ما تسمى بصفقة القرن _ جريمة سياسية وأخلاقية بحق العروبة والإسلام وحتى المسيحية، بجعله القدس موحدة وعاصمة لدولة اليهود. لكن يبدو لدى الكثيرين أن ما فعله ليس غريبا عليه، لما شهدناه منه ونشهده يوميا من ممارسات خارجة عن العرف وبروتوكولات السياسة والدبلوماسية. الا ان ما يهديء انفسنا قليلا اننا على يقين تام بعدم شرعية هذه الصفقة وتاكدنا بانحيازها لإسرائيل ومعرفتنا بدواع ذلك.. مما يجعلنا نعلي الصوت عاليا بالقول إنها وصمة عار للإدارة الأمريكية، حتى وان كان ورائها حزبا بعينه وهو الذي يمثله ترامب، لما احتوته من خروقات دامغة.
يحتل التاريخ ودراسته مكانة هامة في حياة الشعوب والإمم. وقد وجد للاستفادة منه، ولاخذ العبرة من حوادثه، إلا اننا للأسف أمة لا نقرأ التاريخ ولا تستفيد منه ومن أخطاء من سبقنا. فقد جاء في كتب التراث ومنها الكتاب الهام المعروف بـ "النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية" "أو سيرة صلاح الدين"، وهو من تأليف القاضي بهاء الدين بن شداد، مستشار السلطان صلاح الدين وملازمه في حروبه ضد الفرنج. أن السلطان صلاح الدين قال له بعد إحدى جولات صراعه مع الفرنج وتزامنا مع القتال في فلسطين لاجتثاث الفرنج منها: "متى صالحناهم لم تؤمن غائلتهم، فإني لو حدث لي حادث الموت ما تكاد تجتمع هذه العساكر، ويقوى الفرنج، والمصلحة ألا نزال على الجهاد حتى نخرجهم من الساحل، أو يأتينا الموت..". بهذه الكلمات البسيطة حدد صلاح الدين ظروفه وظروف الأمة وخطورة ما حل بها، واستراتيجيات المواجهة مع اعدائه انذاك كذلك.
واعتمادا على ذلك نقول ان رسالتنا (صلاح الدين) للرئيس ترامب أملا في استنهاض الأمة من سباتها وضعفها، ومما هي عليه، مقارنة بما كانت عليه زمن صلاح الدين، يتمثل بقول صلاح الدين وثوابته التي اعتمد عليها في صراعه معهم حتى دحرهم: "٠٠أن هذه الأمة ستعود يوما لمقارعتك ومناكفتك ومفاوضتك، وستستعيد البيت المقدس_ من براثنكم واذاكم، وتنكيلكم بالعباد والنساك وغطرستكم بأهل فلسطين والبيت المقدس أصحاب الأرض الشرعيين _ كما استعدناه من قبل بعد حطين، وذلك من منطلق قوتنا وليس ضعفنا، والتي تقوم أصلا على مبدأ اجتماع الأمة بعساكرها وعتادها وقوادها وامرائها، موحدين لا منقسمين، قلوبهم موحدة لتحرير بيت المقدس الذي هو ملك الأمة الإسلامية باسرها كاملة، لا الخلاص والتفريط فيه، وبحقوق أهله. وفوق ذلك كله نشترط (صلاح الدين) توافر قيادة حكيمة صابرة مؤمنة بقدر الله، تذر نفسها للدفاع عن القدس حتى لو كلفها ذلك ملكها ومتاعها، وعند هذه اللحظة سنقبل الصلح معك يا ترامب، بحيث يكون متى شئنا وبالطريقة التي تناسبنا دون خسارة اي جزءا من بلادنا فلسطين وبيت المقدس، لا كما تريدون وتفرضون علينا، وهذا قادم بإذن الله، لأننا أمة حية لا تموت، حتى وإن وهنت وضعفت وانقسمت وتامرت على بعضها."
ان رسالتي لك يا ترامب لن تتحقق ولن تؤتي أكلها، الا بعد التزام أبناء هذه الأمة باستراتيجيتي في تقوية نفسها بشتى السبل، وتربيتها الفكرية واستعدادها بجميع مجالاتها. ويضاف لذلك كله الاهتمام بعلمائها ونخبها الفكرية التي هي مصدر تعبئتها الفكرية، وحشدها لكل طاقاته وامكانياتها، التي بدونها لايمكن لها أن تنهض وتقوى، ويؤكد ذلك كله ما قلته (قاله صلاح الدين) لامرائه العسكريين ومن حوله، وغيرهم بقوله لهم: "لا تظنوا أني ملكت البلاد بسيوفكم بل بقلم الفاضل" ٠ولعل في شهادة السلطان صلاح الدين هذه بفضل القاضي الفاضل ودعمه تأكيدا على التعاون الوثيق بين السيف والقلم في حركة الجهاد الإسلامي في فترة الحروب الفرنجية. وانه بدون التعليم والتربية الفكرية الصحيحة، والأخلاق التي قام عليها ديننا الحنيف وعروبتنا الأصيلة لن تقوم لهذه الأمة قائمة، ولن تستعيد هيبتها وكرامتها ومقدساتها.
نحن أمة لا نموت وان اصابنا الضعف والهوان. وقد سجل التاريخ حالات ضعف كثيرة لهذه الأمة مشابهة لما نحن فيه الآن ،كتلك التي شهدتها الأمة قبيل الغزو الفرنجي (الصليبي) والذي انتهى باحتلالهم بيت المقدس عام ١٠٩٧م، والذي بقي بيدهم حتى يسر الله لهذه الأمة "صلاح الدين" فحرره منهم عام ١١٨٧م بعد احتلال دام اكثر من تسعين عاما. مما يدعونا للقول ان هذه الصفقة الاحادية لا تشكل نهاية الكون، كما لا تعني البتة انتصار للارادة الامريكية والاسرائيلية على هذه الأمة اعتمادا على قوتها واستغلالا لضعفنا وانقسامنا. كما أنه لا يعني بالضرورة انتهاء اللعبة السياسية، فاللعبة السياسية بحاجة للصبر والحكمة والتروي، وقد المح جلالة الملك لذلك خلال حديثه أمام أعضاء البرلمان الأوروبي ٢٠٢٠م محددا محددات اللعبة السياسية بقوله: "لان السياسة ليست لعبة يفوز بها الاسرع، ففي بعض الأحيان كلما سارعنا زاد بعدنا عن خط النهاية".. ومن هنا نقول لترامب: لقد تعجلت وتسرعت برعونتك وقلة حكمتك، وانجرافك لخدمة اليهود قربانا محاولة منك الإفادة منهم في مستقبلك السياسي، ولكن ثق انك خسرت الكثير، وضربت عقود من العلاقات الاستراتيجية الايجابية بين الولايات المتحدة والعرب عرض الحائط، فبعد ان كانت دولتك العظمى شريكا في السلام أصبحت عدوا له.
ان ما حدث للعرب من صفعة مثلتها صفقة القرن لا يحتاج لكثير من التحليل للواقع العربي، بل هو واضح وضوح الشمس، ولكنه بحاجة لان تقوم الأمة بمراجعة شاملة لواقعها وسلوكها، وتقييم مدى وحدود درجة فسادها، وبطشها ببعضها البعض وانزلاقها نحو الغرب وغيره، ومعالجة انقساماتها، وتقييم مدى التزامها بعلاقتها مع خالقها.
فاسترجاع بيت المقدس بحاجة لعمل ولخطط، وعدد وبرامج تربوية وفكرية واجتماعية قبل العسكرية، وبحاجة لإخراج وإنتاج جيل وامة واعية لتاريخها، موحدة وبعيدة عن الانقسامات والاجندات، ولجيل ملتزم وواعي بالارث العربي والإسلامي العريق بقيمه واصوله وفروعه، لا جيلا متهالكا مهزوما من الداخل والخارج. منسلخا عن أمته ودينه، متعولما حتى نخاعه، بحجج وذرائع واهية.