في الوطنيات "العربية" و "العالمية" ليس هناك نموذجا وطنيا أثار اشكالا كما هو النموذج الاردني ، حيث تختلط الجغرافيا بالسياسية والهوية بالاقتصاد والتغير بالثابت السياسي التقليدي وتتصارع المصالح أفقيا و عاموديا بكل أدوات الممكن
اللاوطني .
هذا الحال ينسحب نموذجه على الحالة الوطنية الاردنية بكل مراحل تشكلها و تطورها دون استثناء ، فالحال بكل تفاصيله تتقاسمه المحطات الابرز للعلاقة بين السلطة والشعب .
والشعب "هنا " هو الظاهرة الاكثر تعقيدا في المنظومة السياسية الاردنية ، فهو يقبع تحت مؤثرات الدعائية السياسية و التجربيية لمشاريع السياسين ، مرة ينتصر له في ديمقراطية شعبية مباشرة و مرة تطبق عليه نظريات السوق و الاستهلاك الاقتصادي ومرة يثور على ذاته " العنف الاجتماعي " ومظاهر تطوره ونموه في المجتمع الاردني ، مرة ينتقل من عداء الذات الى عداء الاخر و هكذا .
حلقات التكامل الوطني في تطور الدولة الاردنية ، فشلت ، رغم مرورها من اللحظة التاريخية للانجاز و التشكل ، بيد أن طبقة البزنس السياسي ، رفضت اللحظة التاريخية لاكتمال المشروع الوطني ، و تخلت عن دورها التاريخي " كبرجوازية مستنيرة " و حبذت البقاء في دائرة اللعب بالمال و الاقتصاد على حساب المصلحة الوطنية .
وفي طبيعة الحال ، كانت هذه الطبقة التي تشكلت أجتماعيا و سياسيا على حواف المصالح التاريخية للاقتصاديات غير أردنية الهوية" الرأسمال الفلسطيني " لعبت دور السمسرة و الشراكة المشبوهة مع الشركات الراسمالية العالمية الكبرى .
وبقى النسيج الاجتماعي للدولة " الشعب " يموج بعلاقات أفقية وعامودية مضطربة تلقي بظلالها على العنف السياسي و الاجتماعي وصراع الهوية الوطنية داخل أرحام الدولة ، فكل محاولات الدمقرطة والاصلاح السياسي ، و الهيبة الكبرى للدولة أو ما يصطلح على تسميته بالعقل " الكلي للدولة " محكوم مصيرها أجتماعيا و سياسيا بالفشل .
ورغم محاولات نخب التصحيح السياسي و الاقتصادي الا أن الحال لم يتغير وبقيت مسارات التردي الاقتصادي والاجتماعي تفرض حالها على الدولة ، و عاشت الدولة لحظتي خلاص "وطني على حقبتين اولهما حينما حملت النخب الاردنية في الستينات و السبعينات القرن الماضي مسؤولية الاصلاح و التحديث لمؤسسات الدولة ومشروعها السياسي الوطني و الاقليمي ومثلها بشكل بارز هزاع المجالي ووصفي التل وكلاهما كانا شهداء للهوية الاردنية بامتياز وبذلك قتل مشروعهما .
والقت محاولة هذا التيار بظلالها على اعادة هيكلة العلاقة بين مكونات النسيج الاجتماعي في البلاد بكل اتجاهاتها عاموديا و افقيا، وبات الفساد رهين قضبة تيار الاصلاح ووصلت الدولة بتلك اللحظة التاريخية الى هيبتها الحقيقية ، وتغير المسار الاقتصادي والاجتماعي للدولة وفق لمنهج اصلاحي وطني اوقف نزف مواردها و استثار المال في يد طبقة محددة وهدد الاصلاح مصالح عوائل البزنس السياسي المتحكمة بمقدرات البلاد والعباد .
أما الحقبة الثانية كانت عندما أستعادت الاردن "روحها " عام 1989 ، ما يصطلح سياسيا على تسميته "هبة نيسان " احداث الجنوب الاردني ، وجاء التوجه السياسي العام نحو اعادة الديمقراطية في سياق مشروع وطني اصلاحي شامل ولكن بقى الاصلاح يراوح مكانه كونه لم يستند لمرجعيات سياسية تفكر في خلق نسق وطني يحتضن التنوع و يحافظ على الهوية واصول تشكلها سياسيا واجتماعيا و ثقافيا .
فكانت هذه المرة الحقيقة مرة تجرعها المواطن عندما اكتشف ان هناك حملا على كاهله ووزراء تتحمله طبقة البزنس السياسي ومقدمة لمؤامرة دولية لتصفية القضية الفلسطينية على حساب مستقبل الاردن السياسي .
ولمس المواطن العادي والنخبوي الدور السلبي لمشروع الدمقرطة و الاصلاح الذي اكتفت الحكومة بدخوله الا عبر بوابة الانتخابات البرلمانية التي عجزت عن ايجاد مؤسسة برلمانية قوية تمثل المجتمع الاردني بمختلف اتجاهاته الاجتماعية والسياسية تحت القبة .
وكان لتوظيف العشيرة ادوار في اذكاء الصراعات الدائمة بين القوى السياسية الفاعلة على النفوذ والحصول على حصة في المجلس النيابي والوظائف العامة بهدف إبقائها على الهامش في المعادلة السياسية الداخلية ، وما أن اندفعت الامور لساعة
الصفر اقتصاديا انقلبت العشيرة على ذاتها واصاب مؤسستها تفتيت مقصود ومبرمج واصاب نسيجها و قيمها بالبلادة .
السياسيون والمثقفون عندنا قلما ، يسطروا في اقوالهم و أفعالهم ، السؤال الحقيقي عن كيفية الخروج من مازق هذه الحقبة وما يواجه الاردن مستقبليا ، لذا فاصبحت النخب بشقيها امام اشكال يؤسس لازمة ، فكيف يمكن الاصلاح والتغيير ما دمنا امام تجدد مستمر لحقبة العوائل الحكومة و البزنس السياسي واضعاف دور العشيرة سياسيا و قوى الاختلاف السياسي .
فنخب السياسية و الثقافة في الاردن عندما تتحدث عن الدولة ، فالبعض يأخذه فكره بموقفه مما يجري لتعبير عن موقف على هوي المسؤول و تضارب مصالحه مع الاخرين "منافسيه" ، أو ممن يقي نفسه شرور الشيطان الرجيم و يبقي حديثه في دائرة مفرغة من الموقف الواضح أو الدلالة ، أما الوطن فانه يبقي على مسافة بعيدة من مواقف نخبه .
هذا و الحق هنا يقال ، انما هو الوهم بعينه ، فالهوية الوطنية تبقي في نظر الشعب و الدولة " السلطة " كائنا غير مفهوم تشكله ولامسار توجهه و كأن أبنائها ما هم الا عابثون في جسدها ، يصنعون الوهم الخالص لينقذوا أنفسهم من حقها ، و لا تلاحقهم في مشاريعهم الاصلاحية المبتورة الا لعنة الهوية التي ترفض الكرئيهة و المعلون و العميل و الطارئ بحكم المال او عدم القدرة على الرحيل و هلما ما جرى .
تلك الصورة التي يراد لها أن تكون بعيوننا فنحن امام اصل الواقع " اي تحديد ورسم حدود الهوية " ما يزيل الغشاوة ويجعلنا نبصر على انفسنا بامل و حق وعدل .
وكلا اطراف المعادلة السياسية في البلاد يحتاج الى عين يرى بها نفسه اولا قبل ان يخدع نفسه والى ان لا يخفي عن نفسه حقيقة وجوده ومببره وحقيقة علاقته مع الاخر والمحتوى الحقيقي للصراع الذي يخوض، أو الذي ينبغي له خوضه؛ ولا شكَّ في أنَّ المحكوم لن يبدأ صراعه الحقيقي ما بقي على احترامه الخرافي لوطن دون هوية .