كانت تلك أول مهمة صحفية لي في حياتي، وكنت قد تخرجت قبل شهور فقط، وشاءت إرادة الله، ان تكون اول مهمة صحفية لي خارج الأردن، إلى بغداد.
استعد، عليك ان تسافر إلى بغداد، وقد تذهبون إلى البصرة، والرحلة برا، فالحصار الأميركي على العراق، يمنع الطيران، وسوف تسافر مع مجموعة من الصحفيين، بالحافلة، وسوف تبقون في العراق عدة أيام، وتلتقون مسؤولين، وتزورون مواقع عدة.
لم أنم تلك الليلة، فالطريق إلى بغداد طويل، وحكايات سندباد البغدادي تستيقظ من زمن الطفولة، وما أزال غير ناضج سياسيا، ولا صحفيا، وصحبة السفر، بددت الضجر.
وصلنا بغداد، وكنت أستكشف المكان بعين غير عين الانسان او الصحفي، ربما عين التاريخ، فهذا بلد عمره آلاف السنين، دفن احتلالات، وبادت فيه حضارات، يكاد ان يقول لك اني هنا منذ آلاف السنين يا هذا فلا تقلق علي، يا ابن امي.
طلبت موعدا مع وزير الاعلام العراقي، آنذاك، وهو حامد يوسف حمادي، وقد كان سكرتيرا للرئيس العراقي صدام حسين، في وقت سابق، وقد استجاب، وأثرت غيرة الزملاء في الوفد الإعلامي، الذين طلبوا ذات الموعد ولم يحصلوا عليه، لاعتبارات مختلفة، لكنه الحظ، وربما الظرف الذي أدى إلى ان تجرى المقابلة ليلا في مكتبه في طابق اخير في وزارة الاعلام.
كان يلبس لباسا عسكريا، متجهما ولا يبتسم، وحوله شاشات التلفزة الأميركية يتابع اخبارها، والحرب السياسية والدبلوماسية على العراق في أشدها، وقد بدأت الحوار بأسئلة متدرجة، وكان يجيب بكل هدوء حتى وصلت إلى سؤال لم أتقصد عبره الطعن في العراق، بل كان نتيجة تسريبات إعلامية أوحت لبغداد الرسمية بالحل اذا أرادت فك الحصار، وكما تعرفون تسرب وسائل الاعلام الغربية، معلومات وتنشر بالونات اختبار.
على هذه الأرضية سألته اذا كان العراق سيقيم يوما علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، في ظل التسريبات الأميركية التي تتحدث عن احتمال هذا الامر، للخروج من الحصار الخانق؟!
امتقع وجه الوزير، قل اصفر واسود، ارتجفت شفتاه، نظر الي بغضب شديد، خفق قلبي ذعرا، شعرت بخوف كبير، وما زلت في بداية مشواري، وكنت أفترض مسبقا ان هذا مجرد سؤال عليه ان يجيب عليه بنعم او لا فقط، دون ردود فعل إضافية.
نظر الي وقال بكل غضب، يا هذا لو كنت صحفيا عراقيا وسألت مثل هذا السؤال لرميتك من الشباك الذي في الغرفة إلى اسفل مدخل وزارة الاعلام لتموت، لو كنت صحفيا عراقيا ووجهت هذا السؤال لتمت معاقبتك، لو كنت صحفيا عراقيا وسألت هذا السؤال لانتهى مستقبلك، وبعد حفلة من التعنيف اللفظي، استرد الهدوء، وبدأ يشرح سياسة العراق ضد إسرائيل، وان ما تروجه وسائل الاعلام الغربية وهم كبير، لا يمكن ان يتورط به العراق.
غادرته، مستغفرا عن ذنوبي السابقة واللاحقة، متمنيا فقط السلامة والوصول إلى الأردن، دون اي مشاكل، فما يزال عظمي طريا، ولا أحتمل اي ضربة في البدايات.
هذه الأيام ، وكلما أسمع عن حاجة هذه الدولة العربية او تلك إلى مصالحة إسرائيل، لحل مشاكلها ، كما في قصة السودان الأخيرة، وما فعله رئيس مجلس الحكم فيها عبد الفتاح البرهان، وان لا حل لمشاكل السودان سوى عبر بوابة إسرائيل، أتذكر قصة الوزير العراقي، بل كل قصة العراق، الذي اختار ان ينزف ببطء وان يدفع ثمنا كبيرا، على ان يصالح إسرائيل، فتقف امام زمنين وتفكر مطولا امام المحنة التي نعيشها، أي حين تصير إسرائيل طوق نجاة للعرب، وتصبح بوابة الفتح المبين، وبدونها لا ينجو العرب، ولا تعيش بعض شعوبنا، ولا بعض دولنا، وكأن هؤلاء تم تصنيعهم لهذا اليوم فقط.
“لو كنت صحفيا عراقيا، لرميتك من الشباك لتموت لمجرد أن سألت هذا السؤال”، فماذا نقول اليوم عن الذين يصالحون إسرائيل، بكل جرأة، قياسا بمن يوجهون الأسئلة فقط؟!
السؤال كان محرما في زمن ما، أما اليوم، فلم تعد هناك اي محرمات.
الغد