حديث في مدوّنة قواعد السلوك مع الإعلام
محمد حسن التل
29-12-2009 04:22 AM
المدوّنة التي تحدد العلاقة بين الحكومة وقطاع الإعلام والصحافة ، التي اعلنتها الحكومة مؤخراً ، والتي سميت "مدوّنة السلوك الإعلامي" ، تشكل في إطارها العام ، حالة إيجابية وخطوة نوعية ، باتجاه تنظيم العلاقة بين الصحافة والحكومة ، هذه العلاقة التي شابها نوع من اللبس في السنوات الأخيرة ، وننظر اليها كحلقة من حلقات اعادة ترتيب البيت الداخلي الاردني.
والواقع أنه كما قلنا سابقاً ، إن المسؤولية الكبرى في هذا الوضع ، تتحملها الحكومات المتعاقبة ، التي اقتربت من مجموعة لا بأس بها من الصحفيين ، من باب إيجاد حالة من "السًّلْم" بين الطرفين.
وللحقيقة ، ان الجسم الصحفي في إطاره العام ، ربما ظلم من كثرة الحديث في هذا الموضوع ، حيث ظهر أمام الناس ، بأنه لا همَّ له إلا المكتسبات والغنائم ، والواقع بالطبع غير ذلك أبداً.
والاسترسال بالحديث عن هذا الجانب ربما ينكأ الجراح ، فبعض الحكومات المتعاقبة ، عاثت بهذا القطاع خراباً وتدميراً ، وإنْ لم تتدخل فيه بشكل مباشر ، فأبتدعت - وكل بدعة ضلالة - طرقاً غريبة على مجتمعنا وصحافتنا ، بالتقرب من الصحفيين ، وبالأصح المحسوبين على الوسط الصحفي واستيعابهم ، حتى يبتعدوا "بشرورهم" عنها: فمضت بسياسة الأعطيات من تحت الطاولة ، واسترضت هؤلاء ، حتى وصل الأمر ببعض الوزراء والمسؤولين ، أن يخشوا كاتباً مغموراً بصحيفة مغمورة: فيسترضونه بصور متعددة ، وترى مسؤولاً يهاجم الصحافة علناً ويطالب بالتشريعات التي تضبطها ، ثم يستعطف خلف الأبواب المغلقة صحفياً أو كاتباً ، حتى لا يتعرض له من قريب أو بعيد ، واليوم يدفع الجسم الصحفي بأكمله الثمن.
من غير المفهوم ، انه إذا كان المسؤول يثق بنظافته وحسن أدائه ، لماذا يعرّض نفسه للابتزاز ويستعطف صحفياً ، أو حتى غير صحفي ، وأدت هذه السياسة المغلوطة ، إلى بروز طبقة على السطح في الوسط الصحفي ، شكلت حالةَ نشازْ واضحة للجميع ، حيث تم تقديم الصغار واستبعاد الكبار.
من يجيبني.. لماذا غاب الأستاذ طارق مصاروة ، عن أي اجتماع بين الحكومة والصحافة منذ فترة طويلة؟ وكذلك الأستاذ راكان المجالي والأستاذ فهد الفانك والأستاذ رشيد حسن والاستاذ خالد محادين؟.. والقائمة طويلة بأسماء هؤلاء الكبار. ولماذا قبل أن يتوفى الأستاذ جورج حداد بسنوات طويلة ، تم استبعاده عن الصورة تماماً؟.. الأمر الذي أدى إلى أن تحل محل هؤلاء ، مجموعة من الكتبة،.
وبصراحة متناهية ، يتحمل الجسم الصحفي جزءاً لا بأس به من المسؤولية ، بالسماح لفئة دخيلة على الوسط الصحفي ، باحتلال مقاعد الصدارة ، حيث سكت هذا الوسط لسنوات طويلة عن هذا الخلل ، الأمر الذي جعل انعكاساته السلبية تستشري ، حتى بات من الصعب السيطرة عليها.
وبالعودة إلى مدوّنة السلوك الإعلامي ، كان من المفروض أن يتم التفريق بين المؤسسات على مختلف أنواعها ، التي لا تمارس أي نوع من الابتزاز لأي جهة حكومية وغير حكومية ، بل تؤدي دورها الوطني على أكمل وجه ، وبين بعض "الدكاكين" ، التي جعلها بعض الوزراء والمسؤولين - من خلال دفع "الخاوات" - تتصدر المشهد ، وبالذات لم يتم التفريق في موضوع الاشتراكات والإعلانات ، وهذه النقطة تؤشر بشكل كبير على الظلم ، الذي تتعرض له الصحافة الأردنية مع الحكومة "أي حكومة" ، حيث يعلم الجميع أن الإعلانات الحكومية ذات ثمن رمزي في الصحف اليومية ، وكان الاشتراك يعوّض هذا النقص ، وأعتقد أن الزميل الأستاذ طاهر العدوان ، قد أشبع هذه النقطة شرحاً في الغراء "العرب اليوم" الأحد الماضي.
معظم صحف العالم تتلقى الدعم من دولها بشكل أو بآخر ، حتى تستطيع القيام بواجبها الوطني بشكل سليم ، إلا صحفنا التي تقاتل في كثير من الأحيان ، حتى تحافظ على وجودها واستمرارها ، مثقلة خلال ذلك بأنواع كثيرة من الضرائب المفروضة عليها من الحكومات المتعاقبة ، وهنا يستحضرني مثل الصحافة الفرنسية ، التي تتعهد الخطوط الجوية الفرنسية بنقلها ، على متن جميع طائراتها بالمجان دعماً لهذه الصحف ، وهذا شكلّ واحدّ وبسيط من مئات أشكال دعم الصحف في العالم.
هل من المعقول أن تدفع الصحف ، ضرائب باهظة على استيراد الورق للحكومة ، وبالمقابل الإعلانات الحكومية شبه مجانية في هذه الصحف؟ ، كذلك تشكل أخبار ونشاطات الحكومة من المجموع العام لمساحة أي صحيفة ، نسبة تتجاوز الـ"50%" ، مع العلم أن صحفنا تقوم ايضا ، بدور كبير وجزء أساس ، في مسيرة حماية المجتمع من البطالة ، وذلك من خلال تشغيل الآلاف من أبناء الوطن ، وهذا دور آخر يضاف إلى دورها الفكري والإعلامي والتثقيفي ، والدفاع عن قضايا الوطن.
نحن بالتأكيد مع مدوّنة السلوك الإعلامي ، لأننا نظن أنها ستؤدي إلى تبرئة الوسط الصحفي من التهم ، وربما ظلماً ، نتيجة بعض الممارسات الحكومية ، من عمليات التنفيع والاسترضاء ، والتي رضي بها جزء قليل من الأسرة الصحفية.
الصحافة الأردنية في معظمها كانت على مدار العقود الماضية ، السد المنيع والسند القوي لمواقف الأردن السياسية.
نعتقد أنه لا بد أن يتم نقاش موسع وحوار جاد ، حول قضية علاقة الصحافة بالحكومة ، دون التعميم ، لأن التعميم يكون أحياناً مضراً ، ولا بد لأصحاب القرار في الحكومة والصحافة ، أن يؤشروا على الخلل دون أي مواربة. وسنظل نقول أننا بحاجة إلى فرسان في الصحافة والإعلام ، يصدقون وعدهم للوطن ، ويسخّرون أقلامهم في معركة بنائه وتجديده ، لا إلى هتّيفة ومحبّري ورق ، كما أننا بحاجة إلى مسؤولين حكوميين واثقين من أدائهم ، يرفضون ابتزازهم من أي جهة كانت.
لقد فهمنا من كتاب التكليف السامي ، عندما تطرق إلى حالات التنفيع والابتزاز والاسترضاء ، أن المقصود بالكلام السامي ، تلك المبالغ والأعطيات العينية ، التي تلقاها البعض في الوسط الصحفي ، من عدد من المسؤولين في الحكومات ، كذلك الاشتراكات ، التي وصلت قيمتها الآلاف لصحف مغمورة ، وربما لا تصدر ، وكان كل هذا يقع في خانة الاسترضاء والتنفيع ، ولكن للأسف ، جاءت مدوّنة السلوك الحكومي مع الإعلام ، لتناقش الأمر على عمومه.
والسؤال الكبير الذي يلحّ بشراسة ، بعد إقرار المدوّنة المذكورة ، التي لم تفرّق في بعض بنودها ، بين القمح والزؤان ، من سيضمن إيقاف أسلوب الأعطيات والمنح ، من تحت الطاولة ، بعيداً عن قصة الاشتراكات والإعلانات.
كنا نتمنى على الحكومة ، أن تضع يدها على الجرح ، بكل جرأة وصراحة ، لا أن تدور حوله ، وتشدّ على يد الصالح ، وتضرب على يد المفسد. ومع هذا فإننا مصرون على مساندتها فعلياً وبقوة ، إذا رأينا جديتها بمحاربة ظاهرة الفساد والمفسدين ، في علاقتها مع الوسط الصحفي.
* الزميل الكاتب رئيس تحرير يومية الدستور ..