"القرن" في أدبيات السياسة الأمريكية
د. محمود الشوابكة
02-02-2020 07:26 PM
لاتعدو "صفقة القرن" أن تكون أكثر من محطة في المشروع الإمبريالي الغربي، الذي تعود جذوره البعيدة إلى الغزو اليوناني، ثم الروماني للمنطقة العربية، فيما تعود الجذور القريبة له إلى مشروع نابليون لإقامة "امبراطورية الشرق" في المنطقة، ذلك المشروع الذي استهله صاحبه بتأجيج مشاعر يهود العالم، واعدا إياهم بإقامة "وطن قومي" لهم على أرض فلسطين.
لكن وبعد أن فشل نابليون في مشروعه هذا، وتحطم حلمه على حجارة حصن عكا، عام ١٧٩٩، جاءت بريطانيا بمشروع متكامل للمنطقة يتضمن إنشاء دولة لليهود على أرض فلسطين؛ فكان ذلك، وكان أن ظهرت "الدولة المصلحة"، التي التقت على إنشائها مصالح الإمبريالية الغربية، مع مصلحة غلاة اليهود الذين أصبحت المنظمة الصهيونية العالمية، فيما بعد، إطارا ناظما لهم، وأداة فاعلة لتنفيذ اطماعهم وتطلعاتهم.
لاحقا لذلك، وبعد أن خلفت الولايات المتحدة الأمريكية بريطانيا في زعامة العالم الغربي المتشبع ثقافيا وسياسيا بالفكر الإمبريالي، تبنت تلك الدولة- التي نُكِبت بها البشرية أيما نكبة- وبشكل مطلق الكيان الذي زرعته بريطانيا، على نحو اتسم في سياقه العام بالثبات الصارم.
ولعل الأمر المهم هنا، هو أن نشير إلى أن كلمة "قرن" قد وردت في أدبيات السياسة الأمريكية الإمبريالية، منذ العام ١٩٤٢ م ، حين طرح الإمبريالي( هنري لويس) مقالة له في مجلة لايف الأمريكية بعنوان: "القرن الأمريكي"، والذي يدعو من خلاله إلى تعميم القيم الأمريكية- من خلال أدوات النظام الرأسمالي، وعلى نحو شبه قسري- لتصبح قيما للعالم بأسره، ليعود جورج بوش الأب، ويطرح المصطلح ذاته بالنص والحرف، بعد انهيار جدار برلين، عام ١٩٨٩، وتحول الولايات المتحدة قطبا وحيدا يعتلي سدة العالم، علما بأن كل من لويس، وبوش الأب والابن، ينتمون جميعا إلى الجمعية الرأسمالية الأمبريالية؛ فائقة السرية المسماة: (skulls and bones) .
الأن، وبعد أن استعرت نيران الرأسمالية العالمية في نسختها الأمريكية، وتوحشها على نحو كبير، وبعد أن اعتلى سدة الحكم في أميركا - تلك الدولة المارقة - رئيس قادم من زمن حملات ملوك الفرنج، وجد التحالف "الإمبريالي الصهيوني" أن حالة التشظي المريع، والانقسام الحاد الذي سيقت له البلدان العربية، وفي ظل العمالة غير المسبوقة لبعض الأنظمة العربية، والذي بلغ، عند بعض منها حد الوكالة الصريحة للغرب، أن الحالة مثالية للغاية لقطف ثمار هذا الواقع، واتخاذ خطوات عملية مفصلية لخدمة "الدولة المصلحة" ؛ أي: " إسرائيل "الدولة والمصالح القائمة عليها، وهو ماتمثل في هذه الصفقة المسماة ب : " صفقة القرن"؛ ذلك أن كل تمكين لهذا الجسم السرطاني إنما يعني بداهة المحافظة على مصالح الغرب المتمثلة في إدامة، وتعميق حالة الإنقسام والتشرذم، باعتبارها الحالة المطلوبة لضمان مصالح الغرب في هذه المنطقة الحيوية من العالم، وباعتبارها - وهو الأهم - منطقة مضادة حضاريا منذ القدم للمشروع الإمبريالي الغربي العابر للزمن .
وأمام هذا الواقع نجد أن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هنا هو: إلى أين نحن ذاهبون؟!
الحقيقة أنه وسط هذا الانكشاف الكبير للنظام العربي، وهذا التعري الفاضح ، والعمالة السافرة لبعض رموز النظام العربي ، يبرز جليا موقف الملك عبدالله ابن الحسين، كتعبير عن ضمير الأمة الحي في اتساق مع الضمير العربي والإسلامي والعالمي الحي، الذي يرى في القضية الفلسطينية قضية عربية وإسلامية وعالمية، وأن نضالات الشعب العربي الفلسطيني المتجذر في أرضه منذ مايزيد عن الخمسين قرنا، هو مواجهة بين الحق والباطل، وأن المستعرض لتاريخ هذه البقعة من الأرض، ليصل إلى قناعة تامة تسندها أدلة من القرأن، ومن سياقات الزمن الماضي، بأن مصير هذه الخطة "الصفقة" ليس هو الفشل وحسب، بل إن الفشل والانكسار سيكون - حتما - هو مصير هذا الجسم السرطاني، ومن ورائه المشروع الغربي في نسخته الأمريكية برمته تماما كما كان عليه مصير كل المشروعات الغربية في المنطقة، بدءاً من المشروع الإغريقي، مرورا بمشاريع روما وبيزنطة، ومشاريع ملوك الفرنج، وليس انتهاء بمشاريع الاستعمار الحديث التي تم كنسها؛ كنسا من هذه المنطقة، ذلك هو المصير الحتمي لهذه الصفقة وتلك المرحلة من المشروع الإستعماري الغربي.
وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}.