وإلى آخر نبض في عروقي سأقاوم
د. موسى برهومة
28-12-2009 04:37 AM
"ربما تسلبني آخر شبر من ترابي، ربما تطعم للسجن شبابي، ربما تسطو على ميراث جدي، من أثاث.. وأوان.. وخواب، ربما تحرق أشعاري وكتبي، ربما تطعم لحمي للكلاب، ربما تبقى على قريتنا كابوسَ رعب
يا عدو الشمس.. لكن.. لن أساوم، وإلى آخر نبض في عروقي.. سأقاوم"..
هذه الكلمات قالها الشاعر سميح القاسم قبل أكثر من ثلاثين عاما، وقد حفظناها عن ظهر قلب، ولطالما أنشدتُها في المظاهرات الغاضبة في الجامعة الأردنية منتصف ثمانينيات القرن المنصرم.
ومع أن سنوات طويلة تفصل القصيدة عن زمن الجامعة الذهبي، وتنأى بالقصيدة والجامعة عن هموم اللحظة الراهنة، إلا أنني ما أزال أنشد القصيدة بالعنفوان ذاته الذي به هتفتُ بها أمام جموع الطلبة قرب برج الساعة في وسط الجامعة التي لم تكن آنذاك تخشى الطلبة المسيسين أو ترهب جانبهم!
أقرأ القصيدة، لأن الشعر في نظري خشبة خلاص حينما يلتحم بالفضاء الإنساني، وحين يوحد "الأعداء" ويحفز الروح على مقاومتهم بكل الوسائل الممكنة.
ولأن العدو التاريخي ما انفك رابضا على قلوبنا، ويعربد بكل غطرسته وصلفه ووحشيته، فإن القصيدة تبقى رافعة نفسية تمد الروح بالعزم على أن المقاومة لن تخمد نيرانها، مهما كانت الريح عاتية وغاشمة، ومهما هتف المحاصرون والمذبوحون من الوريد إلى الوريد: يا وحدنا!
وللمقاومة وجوه متعددة أعلاها سموا الكفاح المسلح، لكنّ غيابه لا يسقط فرض المقاومة "السلمية" التي يكون لها، حين تختل موازين القوى، الأثر الأشد بلاغة والأبعد صدى. ولعل ما يقوده المناضل الأممي العنيد النائب البريطاني السابق جورج غالوي يقع في صلب هذه المقاومة التي لا تسقط من يدها البوصلة، لأن للقلب حدسه الذي لا يخطئ أبدا.
ولم يكن سميح القاسم مبالغا ولا نرجسيا حين قال، لدى زيارته "الغد" الأسبوع الماضي، "لو طبّع كل العرب مع إسرائيل، سيبقى هناك شخص اسمه سميح القاسم، لن يطبّع".
ولئن وسعنا الدائرة قليلا، سنعثر على مقاومين عظام كنيلسون مانديلا الذي ظل يهجس طوال ثمانية وعشرين عاما وهو في السجن بهزيمة النظام العنصري في جنوب افريقيا، فتحقق له حلمه، وصار زعيما لكل الأحرار في العالم.
شمس المقاومة لم تغب عن الإنسان الذي روّض المستحيل، وظل مسكونا بالتغيير، وحارب البشاعة والظلم وحلم بالعدل والجمال، وراح يردد مع الشاعر السوري الراحل محمد الماغوط "أنا طائرٌ من الريف، الكلمة عندي أوزةٌ بيضاء، والأغنية بستانٌ من الفستق الأخضر".
هكذا يكون المرء مقاوما، حينما لا يستسلم للرداءة، وعندما يقود مخيلته إلى التحرر من السأم والبغضاء.
بيننا مقاومون كثر. وما أروع أمهاتنا المقاومات. وكيلا أقع في التعميم أو التجريد، أتذكر أمي الراحلة، المقاومة الفطرية التي عندما كنا صغارا نودعها قبل أن نغفو بـ"تصبحين على خير"، فيما هي تطرز ثوبا لتبيعه كي تعيلنا، ونصحو وهي ما تزال على جلستها ترسم عصفورا محلقا هاهناك يطل على سهل أخضر هاهنا، ولما نهمّ بتقبيل يديها، ونحن نردد "صباح الخير" كنا نلمح كيف حفرت الإبرة مجرى في إصبعها المضمخ بالدم!
العصافير ما تزال تحلق، وتطل على سهل أخضر يتأهب للاحتفال بربيع المقاومة الدائم.
m.barhouma@alghad.jo
* الزميل الكاتب رئيس تحرير يومية الغد ..