شكل الشهيد وصفي التل ظاهرة وطنية وإقليمية خارقة للواقع الذي كان يعيش فيه؛ فقد كان الرجل في فكره وسلوكه، مزيجًا من المفكر والسياسي والعسكري والحاكم الفذ، قلّ ما تشهد المجتمعات العربية حالة مثل هذا النموذج.
آمن وصفي إيمانًا مطلقًا بأن تحرير فلسطين لا يأتي إلا بالعقل والخلق المدججين بالسلاح، الأمر الذي شكل خطورة كبيرة على أصحاب المشاريع المشبوهة في المنطقة، كما أن قادة الصهاينة في فلسطين المحتلة كانوا يرون في نموذج وصفي التل خطرًا على مشروعهم في فلسطين والمنطقة، وهذا شامير يقول حين اغتيل وصفي غدرًا في القاهرة: "اليوم انزاح عن صدورنا واحد من أخطر الرجال على مشروعنا"؛ حيث لم يؤمن الشهيد يومًا بفكرة السلام مع اليهود، وقاوم هذه الفكرة مقاومة شديدة عنيدة صلبة، واعتبر مجرد التفكير بها بداية التنازل عن فلسطين. لقد مارس العمل العسكري بنفسه، حيث قاتل على أرض فلسطين وجرح وحاول تشكيل جبهة قومية من الشباب العربي،
لجعلها قاعدة انطلاق نحو التحرير الشامل للأرض، كما أنه سخر فكره السياسي والقومي بكل تفاصيله لمعركة التحرير.
وعندما تولى مسؤولية الحكم في الأردن، عمل على أن يكون الأردن بؤرة لتجميع العرب خلف مشروع قومي شامل من أجل النهوض بالأمة، وكان هذا كله في فكر وصفي خطوة على طريق تحرير فلسطين.
بيد أنه لم يغفل كذلك عن مشروعه الوطني؛ فقد سعى وعمل من خلال مؤسسة العرش الهاشمي، وبمعية جلالة الملك الراحل الحسين بن طلال على بناء أردن قوي، يكون رأس حربة في الدفاع عن أمته، كما عمل على أن يكون الأردن دولة إنتاج يترفع عن مساعدات الغير، واجتهد في سبيل تحقيق ذلك بكل الطرق والوسائل، كما انه اعتمد على غرس الانتماء الحقيقي في نفس الإنسان الأردني الذي كان يعتبره من أشرف العرب. وفي الوقت الذي كانت تحاك فيه المؤامرات في عواصم (الثورات) العربية ضد الأردن، ومحاولة ابتلاعه وزعزعته، وقف وصفي كالطود الشامخ إلى جانب الحسين يذود عن الأردن ومؤسسة العرش بكل رجولة وإخلاص، وقد ذكر الحسين رحمه الله في كتابه "مهنتي كملك" أنه كان من أخلص الرجال الذين عرفهم في تاريخه. ويسجل التاريخ لوصفي أنه لم يفكر يومًا بالتآمر على مليكه مثل أولئك الذين تآمروا على العرش وكانت ارتباطاتهم خارجية ثم فشلوا وانهزموا وعادوا يطرقون أبواب الوطن من جديد. ولولا أن وصفي كان قد اقنع الحسين بأهمية إصدار العفو العام في عام 1965 عن كل الذين عملوا في السياسة ضد الأردن، لبقي هؤلاء يتسكعون في شوارع الغربة والذل، ولماتوا في مدن المنفى.
تصدى وصفي لأشرس عمليات التضليل والتشويه التي شنت على الأردن، مما جعله هدفًا لها، ولا يزال الجميع يذكر إعلام جمال عبد الناصر الذي كان يهاجم الرئيس الشهيد بشكل مباشر.
لقد مارس الشهيد وصفي التل ولايته كرئيس للوزراء حسب الدستور، وكان يهتم بمباشرة تفاصيل الحكم الصغيرة بنفس اهتمامه بالقضايا الكبرى، وعاش مع الأردنيين في مدنهم وقراهم وباديتهم ومخيماتهم.. آلاف القصص يرويها التاريخ الأردني وترويها ذاكرة آلاف المواطنين، تتحدث عن علاقتهم الإنسانية بالشهيد مما جعله ينغرس في قلوبهم حبًا ووفاءً.
عندما يأتيك من يتحدث عن تاريخ وصفي، محاولًا الغمز أو التقليل من شأن هذه القامة الوطنية والقومية، يواجه بعاصفة قوية من الأردنيين، وبالرفض والاستنكار والاستهجان؛ لأن وصفي عصيٌّ على كل محاولات النيل من تاريخه الذي لا يزال الأردنيون يروونه جيلًا بعد جيل. لقد مضى على رحيل الرجل نصف قرن، وما زالت الجماهير متعلقة بذكراه، وعبقرية ذكراه تبرز عندما تتعلق به الأجيال التي لم تره، بل قرأت وسمعت عنه، فأحبته بل وأخلصت لذكراه.
ليس من المعيب أن يكون وصفي قد عمل واجتهد على أن يكون الأردن قاعدة انطلاق نحو التحرير، بل وأرض حشد ورباط؛ فهو في ذلك خاطب الحقيقة الإلهية الأزلية التي تقول بأن انطلاق مسيرة التحرير سيكون على هذه الأرض المباركة، وبذلك تنبأ الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم بقوله ( أنتم شرقي النهر وهم غربيه). وليس من النقيصة بشيء أن يكون رئيس الوزراء وزير الدفاع قد غادر إلى القاهرة دون أن يعلم أحد بماهية خطابه في اجتماع وزراء الدفاع العرب سوى الملك الحسين، فوصفي كان رئيسًا للوزراء حسب الدستور، ولم يكن مدير إدارة ولا رئيس بلدية، ومن الطبيعي ألا يطلع صغار موظفيه على ما في رأسه.
لقد مضى وصفي إلى منيته في القاهرة وهو يدرك أن المؤامرة ستلاحقه إلى هناك، ولكنه أبى إلا أن يذهب لأنه كان يحمل الأردن وفلسطين في عقله وقلبه، وكان يريد ألا تؤثر الخلافات العربية على مسيرة المقاومة والتحرير، ولم يكن يفكر يومًا بتأسيس شركات وجمع الملايين، فقد كان مشروعًا قوميًا ووطنيًا منذورًا لأمته.
سيظل وصفي صفحة ناصعة في قلوب وعقول الأردنيين وكل أحرار العرب، لقد عمّد وصفي التل مسيرته بدمائه ولم يلوثها بحسابات بنكية أو مشاريع على حساب لقمة الفقراء، عاش لوطنه وأمته ومات من أجلهما. ولم يكن يومًا ليقلي بالًا لحسابات الصغار، بل ظل كبيرًا وختم حياته كبيرًا.