"صفقة القرن" .. زمن التصفيات لا التسويات
نضال منصور
30-01-2020 05:11 PM
لم تحمل "خطة السلام" التي أعلنها الرئيس الأميركي دونالد ترامب (والمعروفة شعبيا بـ "صفقة القرن") مُفاجآت مُفرحة للعرب، والصفقة لم تقدم معلومات جديدة غير متوقعة، وتتقاطع مع كثير من التسريبات والتكهنات التي راجت في الأشهر الماضية.
الخطة التي أُعلنت لم تتجاوز القرارات الأحادية التي دشنها الرئيس ترامب منذ بداية عهده، وتنصاع وترضخ لسياسية الأمر الواقع الإسرائيلية، وبنهاية المطاف أنهت مشروع السلام، وأطلقت رصاصة الرحمة على مسار التفاوض منذ عقود.
جدعون ليفي المحلل بصحيفة هآرتس الإسرائيلية يُشير إلى أن "صفقة القرن كشفت أنه لا يوجد معنى للقانون والشرعة الدولية بما فيها الأمم المتحدة، وأن ترامب ونتانياهو يسعيان للقضاء على ما تبقى من القانون الدولي".
حين شاهدت الرئيس ترامب وهو يُعلن خطة السلام بحضور نتانياهو شعرت أنه مرشح للانتخابات في إسرائيل وليس في أميركا، ولهذا صدق رئيس الوزراء الإسرائيلي حين وصفه بأنه "أول زعيم عالمي يعترف بحقوق اليهود التاريخية في يهودا والسامرة (الضفة الغربية").
إنهاء اتفاقية أوسلو هذا ما بدأ يتحدث عنه قادة فلسطينيون
بعد طول انتظار أعلن ترامب خطة السلام، فأعاد إنتاج ما فُرض على أرض الواقع، إما بقرارات أميركية، أو بخروقات إسرائيلية لقرارات أممية، أو معاهدات للسلام وقعتها من قبل. فالقدس الموحدة عاصمة لإسرائيل، والمستوطنات شرعية وستُضم للأراضي الإسرائيلية، واللاجئون تُحل مشكلتهم في الخارج، وكذلك ضم الجولان. كبير مستشاري الرئيس الأميركي جاريد كوشنير يُبشر العرب "أن إسرائيل قدمت تنازلات كبيرة بموجب الخطة الأميركية حين وافقت على تجميد بناء المستوطنات لمدة أربع سنوات"، ويكشف، بشكل مُضحك، في حديث نشرته الجزيرة "عن أن الرئيس الراحل ياسر عرفات كان يخشى الوصول لاتفاقية مع إسرائيل حتى لا يُتهم من العرب بأنه خائن، منوها أن واقع الحال تبدل، والعرب يرجون الآن القيادة الفلسطينية قبول الصفقة".
"صفقة القرن" ليست أكثر من وعد بلفور جديد تُقدمه الإدارة الأميركية؛ هذا ما قالته القيادة الفلسطينية في أول تعليق لها، فترامب يجلس على خشبة المسرح وحيدا ليتفاوض مع نتانياهو بالنيابة عن الفلسطينيين والعرب، فيقدم له على "طبق من ذهب" أراضٍ وحقوق فلسطينية خلافا للكثير من قرارات الأمم المتحدة والشرعية الدولية.
"لن تمر صفقة القرن" هذا هو الموقف الفلسطيني، وكذلك الموقف الأردني، فالرئيس محمود عباس يُعلن أن القدس ليست للبيع، ووزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي يُحذر من إجراءات إسرائيلية أحادية تستهدف فرض حقائق جديدة على الأرض مثل، ضم الأراضي، وتوسعة المستوطنات، وانتهاك المقدسات في القدس.
"جيروزاليم بوست" زعمت أن الرئيس عباس قال قبيل إعلان الخطة "اتصلوا بي من واشنطن، ولكنني لم أرد على الهاتف، قلت لا وسأستمر بقول لا"، وتُضيف على لسانه "أخبروني أنني سأدفع ثمن فعلتي الحمقاء، لم يعد لدي الكثير لأعيشه، ولن أموت خائنا، إما الموت كشهيد أو رفع علم فلسطين فوق أسوار القدس".
لن يعلن الأردن أو فلسطين الحرب في مواجهة صفقة القرن، لكنهما يملكان قوة الرفض والامتناع تماما عن التعامل مع الخطة الأميركية للسلام، ولهذا لم يتردد مسؤول أردني رفيع المستوى عن مُكاشفة إعلاميين بالقول "لن يستطيعوا أن يفرضوا علينا اتفاقية لا نقبلها وتمس مصالح الدولة، وكثيرة هي المشاريع والمبادرات التي طُرحت ولم تجد طريقا للقبول".
قبيل أيام قليلة من إعلان ترامب لخطة السلام كان وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي بمشاركة وزير الدولة لشؤون الإعلام أمجد العضايلة يُعلن أمام حشد من الإعلاميين التقاهم أن "صفقة القرن لم تُطرح على الأردن بتاتا، ولم يطلع عليها على الإطلاق، ولا أحد يملك حق التكلم بالنيابة عن الأردن".
التنصل الأردني الرسمي من الخطة الأميركية كان حاسما، وأكثر من ذلك فإن الوزير الصفدي كان أكثر حدة في قطع الطريق على محاولات التشويش باستحضار وطرح العودة عن قرار فك الارتباط بالضفة الغربية؛ مما يُفسر على أنه قبول لفكرة الترانسفير والوطن الأردني البديل.
الإشاعات التي راجت في الشارع الأردني عن احتمال تراجع الأردن عن قراره بفك الارتباط مع الضفة الغربية عام 1988 إبان عهد الملك الراحل الحسين لم يستبعد مسؤولون أردنيون أن تكون تشويشا إسرائيليا على الموقف الأردني؛ لإثارة البلبلة وخلق الانقسام في الشارع.
الحكومة الأردنية ترفع شعار الدفاع عن المصالح الوطنية العليا
اللاءات الأردنية لم ينفك العاهل الأردني الملك عبد الله من تكرارها، ولغة التصعيد في مواجهة القادم يُمكن تلمسها في عمّان بوضوح، فرئيس مجلس النواب عاطف الطراونة وبعد أقل من ساعة على حديث ترامب وصف ما حدث "بأنه يومٌ أسودٌ على القضية الفلسطينية ويذكر بوعد بلفور"، وفي موقف غير مألوف أصدرت دائرة الإفتاء بيانا ترفض فيه صفقة القرن، وتؤكد أن القدس الشريف عاصمة لـ فلسطين، ولا أحد يملك حق التنازل عن ذرة واحدة من أرض فلسطين"، وبذات الوقت كان الناشطون يعتصمون أما السفارة الأميركية في عمّان التي كان الوصول لها خطا أحمرا".
عدا عن رفض التفريط بالحقوق الفلسطينية، فإن الحكومة الأردنية ترفع شعار الدفاع عن المصالح الوطنية العليا، وهي ترى مُسلحة بمساندة الشارع أن الرؤية الأميركية تُهدر قضية اللاجئين، ولا تقدم إقرارا حاسما بالوصاية الهاشمية على المقدسات، وتُغير بواقع الحدود بعد قبولها بضم إسرائيل لغور الأردن.
تعترف الحكومة الأردنية أنها لن تستطيع مواجهة المخرز الأميركي ـ الإسرائيلي وحيدة، ولا ترى مصلحة عاجلة في إنهاء معاهدة السلام، إلا أنها ترفض سياسة الأمر الواقع، وتُبقي كافة الأبواب والخيارات مفتوحة بما فيها اللجوء للمحاكم الدولية؛ لمُقاضاة وملاحقة إسرائيل على خرقها لمعاهدة السلام وللقرارات الدولية، وانتهاكاتها المستمرة.
الأسبوع المُقبل سيشهد اجتماعا طارئا لوزراء الخارجية العرب، وفي الغرف المغلقة حين تُسأل الحكومة الأردنية عن المواقف العربية من "صفقة القرن" فإن الجواب الدبلوماسي "كل الدول العربية مُجمعة على احترام قرارات الشرعية الدولية".
سلطنة عُمان، والإمارات والبحرين حضرت إعلان ترامب لـ "صفقة القرن" في البيت الأبيض، ونالت الدول الثلاث الثناء الأميركي والإسرائيلي، ووجهت دعوة للسفير الأردني للحضور فرفض، والمخاوف في عمان بعيدا عن اللغة الدبلوماسية ما هي الاختراقات التي ستحدث في البيت العربي؟، وهل ستجد "صفقة القرن" زعماء عرب يناصرونها علنا بعد أن ظلت واشنطن وتل أبيب تزعمان أنها تحظى بتأييد ملوك ورؤساء عرب؛ بل ويؤكد ترامب أن تغطية الدعم المالي لخطة السلام الذي يُقدر بـ 50 مليار دولار ستدفع معظمه العواصم الخليجية؟
أسئلة كثيرة تنتظر إجابات في العالم العربي في قادم الأيام، هل ستُعقد قمة عربية طارئة للرد على خطة ترامب للسلام؟ وهل سيُبدد الزعماء العرب آمال ترامب ونتانياهو، ولن يشتروا بضاعتهم؟ وهل ستشهد العواصم العربية "انتفاضات" بعد ما باتت هناك قناعات أن العالم العربي في سبات عميق؟
لا يُراهن الشارع العربي كثيرا على قيادته السياسية، ويدركون بألم أن الحواضر العربية ـ القاهرة، بغداد، ودمشق ـ قد استُنزفت بصراعات وحروب وانقسامات، والخليج خاضع للسيطرة والابتزاز والتهديد بـ "البعبع" الإيراني، وإن كان من فعل يُنتظر للمواجهة فهو فلسطيني بامتياز.
إنهاء اتفاقية أوسلو هذا ما بدأ يتحدث عنه قادة فلسطينيون، ووقف التنسيق الأمني، والأهم إنجاز المصالحة الفلسطينية للتصدي ليس لـ "صفقة القرن" فقط؛ بل للغطرسة الإسرائيلية حين يُعلن وزير الدفاع الإسرائيلي في تغريدة له بعد خطاب ترامب "لن نعترف بدولة فلسطينية تحت أي ظرف".
الأردن وفلسطين لن يعلنا الحرب ولكنهما يملكان قوة الرفض
مهما امتلكت إسرائيل من قوة غاشمة؛ فإنها لن تستطيع أن تنهيَ وجود الشعب الفلسطيني، ومهما امتلكت الإدارة الأميركية من سطوة على الزعماء؛ فإنها قد تشتري قبولهم أو سكوتهم، لكنها لن تستطيع تغيير حقائق التاريخ والجغرافيا، ونشرُ ترامب خريطة جديدة لفلسطين حلم ساذج لن يتحقق.
إسرائيل بقوتها وجيشها عاجزة عن التصدي للقنبلة الديموغرافية لفلسطيني الداخل، فهي ترى حتى وإن شجعت الهجرة غير الشرعية لليهود من كل أصقاع العالم، ستصبح بعد عقد أو عقدين من الزمن أقلية حتى داخل حدودها، فكيف سيصبح مصيرها مع إقليم عربي لن يعترف بشرعيتها؟ ولن يقبل وجودها؟
مارتن إنديك مساعد وزير الخارجية الأميركية الأسبق ومبعوث السلام يُعلق على ما حدث بالقول "تصميم ترامب على إعلان صفقة القرن قبيل الانتخابات الإسرائيلية دون طرف فلسطيني دليل على أنها ليست خطة سلام؛ بل لعبة هزيلة من بدايتها لنهايتها".
بعد أكثر من 70 عام على الاحتلال الإسرائيلي لن يتهافت الفلسطينيون للقبول بـ "دويلة" لا تملك سلطة على أي شيء، فهُم يعرفون أكثر من غيرهم أن إسرائيل آخر دولة مُحتلة في العالم لن تستمر مهما طال الزمن، ويدركون أن جدران الفصل العنصري ستنهار، وأن التضحيات التي قُدمت ستنتصر وستُعلي العلم الفلسطيني حتى وإن طال المشوار، ومتأكدون أن هذا زمن التصفيات وليس التسويات، والحلول العادلة هي التي تضمن الكرامة والسلام للشعوب.
الحرة