سلسلة تاريخ الحكومات الأردنية على امتداد نصف قرن (4)
د.هايل الدهيسات
27-12-2009 12:34 PM
رافقت حوادث الزرقاء -تمرد ضباط الجيش الميالين إلى اليسار- سلسلة من المحاولات الحثيثة لتأليف حكومة جديدة خلفاً للحكومة اليسارية المقالة، كان ذلك بين العاشر والحادي عشر من نيسان لعام 1957، ولأول مرة في تاريخ الحكومات الأردنية، ظهرت بين أوساط بعض المستوزرين نزعة العزوف عن تحمل مثل هذه المسؤولية.
ولعل ذلك كان بسبب الخوف من عواقب الاستيزار نفسه التي ظهرت على المشهد السياسي للأحداث المتأزمة، وذلك نتيجة للصراع السياسي الحاد بين دولة سليمان النابلسي المُقال وأعوانه من جهة.. وبين القصر من جهة أخرى.
وفي خضم الثقة الزائدة لدى اليساريين بعدم قدرة الملك الحسين على تشكيل حكومة جديدة، كان دولة سليمان النابلسي وأعوانه قد التقوا في سهرة ليلية بحضور اللواء علي أبو نوار رئيس الأركان، وقد دار بينهم حوار نقرأه في أقوال الحسين بن طلال رحمه الله من خلال أحاديثه الملكية:
"الرئيس النابلسي يسأل الحضور: إلى من يئول تأييد الشعب؟ إليكم. ثم يلتفت نحو علي أبو نوار قائلاً: إلى من يئول تأييد الجيش؟ يجيب اللواء: إليكم يا صاحب الفخامة. ويسأل النابلسي متهكماً: من إذن يؤيد الملك؟".
كان الأمر يزداد صعوبة، ومع ذلك فإن ما يخفف ويذلل الصعوبات هو أن جلالة الملك الحسين رحمه الله ظل على ثباته ورباطة جأشه كالجبل الأشم الذي لا يتزعزع، حيث كانت الاجتماعات تتوالى في القصر، وبنتيجة اتفاق بين الأحزاب والمستقلين ولدت حكومة دولة الدكتور حسين فخري الخالدي.
وقد ضمت الحكومة الخالدية بالإضافة إلى رئيسها.. ثلاثة رؤساء وزارات سابقة كوزراء؛ وهم: سعيد المفتي، وفوزي الملقي، وسليمان النابلسي، ووزراء آخرون هم: الدكتور أمين مجج وماجد عبد الهادي وسليمان السكر.
خُيّل للجميع -جراء ذلك- أن الأزمة السياسية قد انتهت، وساد التفاؤل والأمل، ولكن الأمور قد سارت على غير ما كان متوقع، فظلت المعارضة تعمل وتتآمر وتؤلب الأنصار على النظام، ولم تتعض بما جرى مع الضباط الميالين إلى اليسارية (تمرد الزرقاء)، ففي يوم 17 نيسان 1957، وبعد محادثات عديدة آنذاك جاء دولة الخالدي ومعه اللواء الحياري إلى الديوان الملكي العامر، والتمس دولته من جلالة الملك إسناد منصب رئيس الأركان إلى اللواء علي الحياري. فاستجاب جلالته لذلك.
ومع توالي الأحداث أصدر اللواء علي الحياري في 18 نيسان أمراً خطياً للزعيم عزت حسن بتشكيل هيئة للتحقيق في الحوادث التي جرت بين بعض وحدات الجيش العربي يوم 13 نيسان 1957 (تمرد الزرقاء)، ثم أصدر أمراً آخراً إلى قائد الفرقة بإعطاء أحد عشر ضابطاً إجازة مدتها شهراً واحداً، واعتقالهم في بيوتهم بناء على تنسيب هيئة التحقيق.
وفي ظل الظروف الراهنة استأذن اللواء الحياري من جلالة الملك للذهاب لمقابلة رئيس هيئة الأركان السوري على الحدود الأردنية السورية، لبحث موضوع نقل القوات السورية المعسكرة في الأردن من المفرق إلى مدينة درعا السورية. فأذن الملك بذلك، ولكن اللواء الحياري ذهب إلى دمشق، واتصل ليلة 20 نيسان هاتفياً بدولة الخالدي وأخبره أنه قد استقال من منصبه كرئيس لأركان الجيش العربي الأردني.
فوجئ الجميع في الأردن بهروب رئيس هيئة الأركان علي الحياري إلى دمشق، وعمت الدهشة، لهذا الفرار، وأما الأسباب التي أدت إلى هذا.. نقرأها في مذكرات المرحوم دولة هزاع المجالي:
"كان علي الحياري محسوب على كلوب، شأنه في ذلك شأن علي أبو نوار وغيره ممن لقبوا أنفسهم بالضباط الأحرار الذين كان همهم تحريض كلوب على اضطهاد بعض الضباط الآخرين.. ففي دمشق عقد الحياري وأبو نوار مؤتمراً صحفياً، فقد ظهرا معاً من خلال الصور في صحف دمشق كضباط أحرار.
يقول هزاع المجالي أن الحياري كان يلعب على الحبلين، وأنه كان متورطًا مع علي أبو نوار، بحيث بات يخشى على نفسه إن هو بقي في الأردن، فآثر الفرار على البقاء، وشجعه على ذلك إيهامه من قبل جماعة علي أبو نوار بأن فراره سيربك المسئولين في عمان.
وفي اجتماع عقد في دمشق أعرب الحياري عن هربه بأنه اضطر إلى مغادرة الأردن نتيجة للضغط الذي وقع عليه، وإزاء هذا أذاع دولة الخالدي بياناً رسمياً فند فيه ادعاءات رئيس الأركان، بعد أن أشار إلى تعيين الحياري الذي تم برضا وإجماع زعماء الجيش العربي، بعد أن أقسم يمين الولاء والطاعة للملك والوطن.
من هنا أبدى رئيس الوزراء أسفه "أن يقوم البعض ممن كانوا إلى مدة قصيرة مضت يحملون مسؤوليات كبيرة في حماية الوطن، بإصدار بيانات وعقد مؤتمرات صحفية أحدثت البلبلة واستغلت استغلالاً لا يتفق مع مصلحة الأردن وأمنه وسلامته".
وفي ذلك الوقت عُين اللواء حابس المجالي رئيس لأركان الجيش، خلفًا للرئيس السابق، وتبين أن عدداً من ضباط الجيش كانوا قد غادروا عمان متوجهين إلى دمشق منذ اليوم الذي غادر فيه علي أبو نوار مع أسرته. ورافق فرار الضباط فرار عدد من المدنيين بينهم وزيران من أعضاء الوزارة اليسارية المستقيلة هما شفيق ارشيدات وعبد الله الريماوي وزير الدولة للشئون الخارجية.. كما اختفى عدد من قيادات الأحزاب (الشيوعيين والبعثيين والاشتراكيين وغيرهم).
كما أن هذه الأحداث قد تسببت في خلق أزمة سياسية، وتوتر داخلي كان قد أضعف حكومة الخالدي.
ناهيك عن جبهة القدس حيث يعقوب زيادين، عضو مجلس الأمة، أحد أهم المنظرين للحزب الشيوعي في الأردن، كان يحث الناس إلى التظاهر ضد الحكومة الخالدية.
إزاء هذا كله لم يجد دولة الخالدي بُدّاً من تقديم استقالته، فرفعها إلى جلالة الملك مساء يوم 24 نيسان 1957، أي بعد تسعة أيام من تأليف الحكومة، وقد جاء في كتاب استقالته "أقدمت وزملائي على تحمل أعباء الحكم في هذه الظروف الدقيقة الحاسمة من تاريخ الأردن الصابر المجاهد، علماً منا بأن أكثرية الأحزاب والهيئات ورجالات الأردن المسئولين يؤيدوننا داخل المجلس النيابي وخارجة. ولقد تبين لي ولزملائي هذا اليوم، أن جميع هذه الأحزاب والهيئات قد سحبت تأييدها. ولم يبقى أمامي إلا أن أتقدم باستقالتي".
وفي ظل التأزم الذي ساد المشهد السياسي للأحداث، ونتيجة للصراعات الحادة بين دولة سليمان النابلسي المقال وأعوانه من جهة وبين القصر من جهة أخرى، لم يقف الملك الشاب مكتوف الأيدي إزاء الفتنة السياسية، فكانت له محاولات عديدة لاستعادة هيبة السلطة وسيادتها، وقد تمثل ذلك باستدعاء دولة إبراهيم هاشم، فعهد إليه بتشكيل حكومة جديدة لتعالج المشهد السياسي للأحداث بما يقتضيه الأمر.
ومن الطبيعي أن يستهل دولة السيد إبراهيم هاشم مقاليد الحكم بإعلان الأحكام العرفية في ساعات الصباح الباكر من يوم 25 نيسان 1957، حيث استمرت حكومته حتى 18 أيار 1958 عندما بوشر بتأليف حكومة الاتحاد العربي برئاسة دولة سمير الرفاعي.
كانت المهمة الأولى لحكومة إبراهيم هاشم الخامسة إعادة الهدوء والاستقرار للأردن, وإعلان الأحكام العرفية، كما أصدرت قراراً بحل الأحزاب فاستتب النظام، وارتكزت حكومته في بيانها الوزاري على خطاب العرش، كما جاء في كتاب التكليف السامي لجلالته: "تعلمون دولتكم أن البلاد العزيزة تجتاز في هذه الأيام ظرفاً عصيباً، من جراء الأعمال التي قامت بها فئات لا تقدر مسؤولياتها نحو بلادها ومواطنيها، مما يهدد السلامة العامة، ويشيع الفوضى والاضطراب، ويعرض سلامة البلاد لأشد الأخطار، لهذا فإنا نأمل من دولتكم اتخاذ جميع الإجراءات التي تكفل صيانة الوطن من الخطر وحماية أهله من العبث والفساد".
قراءة للمشهد السياسي في خطاب الملك الحسين لشعبه:
في تمام الساعة الثانية من صباح يوم الخميس 25 نيسان 1957 أذاع جلالته خطاباً إلى شعبه، فشرح فيه أسباب الأزمة السياسية ومراحل تطورها؛ حيث استهل خطابه بتوجيه النداء للشعب الأردني؛ في ساعة تعبث فيها بمصالح ومقدرات ومستقبل الوطن، فئة لا تخشى الله ولا تخشى الضمير رضيت أن تبيع نفسها رخيصة لغيرها.
وفي هذا السياق هاجم جلالته مثيري الشغب بوصفهم أقلية ضئيلة يستوحون توجيهاتهم من الخارج، ولم يشاركوا في النضال الذي خاضه الشعب الأردني، وكانوا مختبئين يوم حقق الحسين التعريب.
إن ما تجدر الإشارة إليه هنا، أن جميع الأحزاب السياسية كانت قد وافقت على تشكيل حكومة الدكتور الخالدي، ومع ذلك نرى كيف أن الأحزاب نفسها ما لبثت أن أخذت تنظم المظاهرات، وتدعوا للإضراب العام، وكان لكل ذلك آثاره السيئة وعواقبه المؤلمة التي كادت أن تعصف بالأردن.
على أن عدم رضا المواطنين نلحظه بكثرة شكاويهم، التي رفعت للملك من جراء سياسة حكومة النابلسي اليسارية التي أبعدت المخلصين وأصحاب الكفاءات وقربت الحزبيين وسمحت للشيوعيين باستغلال الموقف ونشر أفكارهم ومبادئهم في المدارس الأردنية.
وكانت الصعوبة هنا أكبر، عندما تسللت الحكومة اليسارية النابلسية السابقة إلى صفوف الجيش العربي حتى كادت الحزبية اليسارية تلهي رجال الجيش عن واجبهم الأسمى تجاه الوطن ومليكه.
وفي خضم تلك التطورات السياسية وعلى الرغم من عدم حماس النابلسي وأعوانه أعرب الملك الحسين أنه كان عازم على دخول المعركة إلى جانب دولة مصر أبان العدوان الثلاثي، (تشرين الثاني 1956) وأن جلالته كان قد وقف مع مصر منذ تأميم قناة السويس، حتى أنه أنذر السفير البريطاني في عمان بأن قوات الجيش العربي ستقوم بتدمير المطارات والقواعد البريطانية في الأردن، إذا ما استعملت كقواعد في شن الهجوم على مصر.
أبدى جلالته العتب على القيادة المصرية لسماحها لمراكز القوى الإعلامية المسموعة والمقروءة بالعمل على استثارة الشعب الأردني، والتعرض لشخص الملك، والعمل على تشويه حقيقة الأمر في المشهد السياسي الداخلي.
ومن الطبيعي أن يشدد الملك بخطابه على أن الأزمة هي داخلية، ولن يسمح لأحد من الخارج أن يتدخل في المشهد السياسي الأردني، كما دعا الشعب أن يخلد إلى السكينة والنظام، وأن الحكومة ستضرب على أيدي المفسدين.
وهكذا نكون قد ألقينا بعض الأضواء على المشهد السياسي لتاريخ الحكومات الأردنية منذ تولي الملك الحسين بن طلال رحمه الله سلطاته الدستورية، من خلال مقالتنا هذه التي تمثل السلسلة الرابعة من قراءة المشهد السياسي لتلك الحقبة الزمنية على أمل استكمال السلسلة إن شاء الله.
د.هايل الدهيسات
كاتب وباحث
dr.hayel66@yahoo.com