بداية. اجد نفسي محتارا في التعامل مع الاصطلاح الجديد الذي اطلقته الحكومة المسمى »مدونة«, فكيف تكون المدونة اساسا للمساءلة القانونية? ففي هذا البلد نحتار كيف نتعامل مع القوانين التي يُكتب كل حرف فيها بمهنية قانونية ومع ذلك نواجه بمسؤولين يجتهدون للي عنق القوانين بتفسيرات من باب انها (حمّالة اوجه).
على اية حال. ما جاء في »مدونة« قواعد العلاقة بين الحكومة ووسائل الاعلام يخص الحكومة وحدها. لكنها تتجاهل مصالح الصحافة والطرف الاخر في العلاقة بينهما. مما يستوجب ايضا تلبية (المطالب العادلة) للصحافة, من باب المعاملة بالمثل في بند (الجدوى المالية) للمال الخاص توازنا مع ما ورد في المدونة عن (جدوى الانفاق من المال العام).
مطالب الصحافة لا تحتاج الى مدونات, انما الى الالتزام بالدستور وبقوانين السوق والاستثمار كحق من حقوق المؤسسات الصحفية في زمن اصبح فيه الإعلام (ومنه الصحافة) اهم صناعات العصر; صناعة يستثمر فيها الرأسماليون وليس الحكومات. وقبل ذلك وبعده مطالب بالتزام الحكومة فعلا لا قولا بالرؤية الملكية للإعلام وهي (ضمانة حرية الصحافة وحقها في العمل بمهنية واستقلالية), التزام يجسد على ارض الواقع ما تعهدت به الحكومة الجديدة تجاه وسائل الاعلام »بمختلف اصنافها: المقروءة والمسموعة والمرئية والالكترونية«, التزام نثمنه ونتطلع الى التقيد به من اجل خلق المناخ الصحي لحرية الصحف والصحافيين.
***********
من حق الحكومة ومؤسساتها ان توقف سياسات الاسترضاء والمهادنة بسبب الخوف من الابتزاز«. فهذه كلها ترفضها الاغلبية العظمى من الصحافيين, لكن من شجعها هي الحكومات التي اخترقت العمل الصحافي ودمرت قواعده المهنية والاخلاقية بالعطايا وسياسات الاسترضاء, كما ان ميثاق الشرف للنقابة يقتضي عدم معارضة هذا الموقف الحكومي انما تأييده. فمن (الدوار الرابع) كان اساس الداء ومنه ينطلق العلاج.
وللحكومة ايضا ان توقف اشتراكاتها في الصحف وان تنظم معايير نشر إعلاناتها من باب »جدوى الانفاق من المال العام«. هذا شأنها ولا شأن لنا به الا بما يتعلق بمطلبنا كصحافة بان نُعامل بالمثل. ثم ان الامر لم يكن يحتاج الى (مدونة) انما الى قرارات داخلية تنظم الاشتراكات وتوقف الاعلانات التي دافعها الخوف والاسترضاء وكذلك منع العطايا. قرارات تُصحح الخطأ بدل تعميم العقاب على الجميع.
وهناك ملاحظة ضرورية. ليس الخطأ في (الاشتراك الحكومي) فهذا معمول به في جميع دول العالم. وهو جزء متقدم ومتطور في وسائل التوزيع والاشتراك بالصحف. الخطأ وقع عندما استخدمت الوزارات والدوائر الاشتراكات لشراء ذمم الصحف والصحافيين. حيث رأينا اشتراك صحيفة اسبوعية واحدة تطبع الف نسخة يصل الى 100 او 200 في دوائر ووزارات. فيما لم تحصل اي صحيفة يومية على ربع هذا العدد مع انها تقدم مقابلها عشرات الاعداد مجانا.
*********
مطالب الصحافة من الحكومة لا تحتاج الى مدونة, لكن الى التزام بالدستور والقانون وبالرؤى الملكية وبتعهدات الحكومة الواردة في ردها على كتاب التكليف السامي.
1) يتحدث البند الاول في المدونة عن اتخاذ (كل الاجراءات) لضمان حرية التعبير وحق وسائل الاعلام في العمل بحرية واستقلالية, والواقع انه لو جاء الى البلد اي زائر من المنظمات العالمية المهتمة بحرية الصحافة ومكث في عمان اسبوعا فقط لخرج بتقييم سلبي لحرية واستقلال الصحافة الاردنية. واجزم انه بمجرد ان يتابع الصفحة الاولى المتشابهة, معظم الوقت, في الصحف اليومية سيقرر ان (الصحافة) تخدم الحكومة لا الرأي العام, وبان هذه الصحف لا تعمل بمقاييس المنافسة والحرية الصحفية, ويستغرب إن كانت الصحافة تحقق انتشارا متناسبا مع عدد السكان.
نخرج كل يوم بفيض من الاخبار الرسمية. واذا لم نفعل, تُفتح الآذان في المواقع الرسمية للمتربصين والانتهازيين والمنافقين لكيل الاتهامات للصحافة والطعن في ولائها وانتمائها وصولا الى ممارسة سياسات (الرضا والغضب) على الصحافيين التي هي اقسى من الرقابة قبل الطبع وبعده. اذن, امنحونا بحق, الحرية والاستقلال والمهنية من دون سوط الاتهامات المسلط فوق رؤوسنا بعدم الانتماء واللاوطنية..الخ.
***************
من حق الحكومة ان تحافظ على المال العام, في مسألتي الاشتراكات والاعلانات. لكن ماذا عن (المال الخاص) للمؤسسات الصحافية, ماذا عن هذا التمييز الذي تعطيه الحكومة لنفسها عندما يحتل جزء كبير من اعلاناتها صفحات الجرائد بملاليم او (بشوية ترمس) كما يقول المصريون وكأنها تدفع الرواتب وتشتري الورق للصحف, لماذا يدفع المواطن (2000) دينار ثمن الاعلان في الصفحة الداخلية الواحدة, فيما تدفع الحكومة 200 فقط!!
نطالب بان تدفع الحكومة ثمن ما تنشره من اعلانات في الصحف بسعر السوق, وجاهزون لاعطائها خصما تفضيليا. فالصحف تتكلف ثمن الورق والطباعة والتوزيع والرواتب وتدفع ضريبة مبيعات. وبينما كان الكونغرس الامريكي يناقش منذ وقت قانونا يسمح بمنح الصحف الامريكية مساعدات من اموال الدعم التي قررها للتحفيز الاقتصادي, كنا نخوض معركة مع مجلس النواب المنحل ضد فرض ضريبة ال¯ 5 بالمئة (لشأن من شؤون وزارة الثقافة) ولم ننجح في الغائها كلها ونطالب اليوم بالغاء (ال¯ 1 بالمئة) من ضريبة الثقافة.
ونطالب ايضا, بان تدفع الوزارات والمؤسسات والبلديات والهيئات والجمعيات نصف الحكومية بما في ذلك المؤسسات الرياضية والشبابية والنشرات الارشادية للصحة والمياه والاوقاف والزراعة.. ثمن ما تنشره من (اعلانات) مجانية في الصحف مع انها تحتل مساحات واسعة من الصفحات (قيمة ما نشر في العرب اليوم من اعلانات ونشرات مجانية للمؤسسات يصل الى 100 الف دينار خلال هذا العام).
وشر البلية, اننا اكتشفنا ان بعض المؤسسات تنشر اعلانات مجانية في الصحف اليومية, بينما تدفع عشرات الالاف لقاء اعلانات استرضاء لبعض المواقع الالكترونية!!
الصحافة العالمية تعيش ازمة مالية, حتى الواشنطن بوست والجارديان والتايمز وغيرها, وصحافتنا ليست استثناء, فهي مهددة مثل غيرها بالتحديات الجديدة. مع ذلك نقول للحكومة (كل واحد يصرف من كيسه), ادفعوا ثمن اعلاناتكم ونشراتكم بسعر السوق, حتى تلك المتعلقة بالتوعية ما دامت تخدم نشاطا حكوميا, والتي يفترض ان تغطى من الموازنة وليس من اموال المؤسسات الصحافية وعلى حساب رواتب الصحافيين.
***
والصحافة الاردنية غير شقيقتها العربية من المحيط الى الخليج, لا تتلقى دعما حكوميا مباشرا او غير مباشر, مع ذلك تلتزم بالتوجهات الرسمية وكأنها جزء من القطاع العام, وهي تتجنب الدخول في سوق المنافسة عند اختيار المانشيت ومواضيع صفحتها الاولى, مع ان حرية الاختيار وشرعية المنافسة هي معيار مهني صرف. وهي القوة الدافعة للانتشار. التي على اساسها يتدفق الاعلان الذي يشكل موردا اساسيا للمؤسسات الصحافية.
في اغلب الاحايين ترى واجهات صحفنا مجرد اعادة لنشرة الساعة الثامنة في التلفزيون الرسمي. ولو اتيح لنا (كقطاع خاص) ومن باب قوانين الاستثمار والربح والخسارة), ان نملك الحرية والاستقلال بالفعل في اختياراتنا المهنية لكنا قادرين على القفز خطوات واسعة في الانتشار دون الاخلال بالمهنية, ومواثيق الشرف والقوانين. فالصحافة اليومية لا تريد لا تطلب دعما عينيا, انها تريد فقط ان تأخذ ما هو حق لها.
تضحي الصحافة الاردنية ماديا ومعنويا لخدمة الادارة الحكومية بالتزامها بنشر الدعايات والاخبار الرسمية اضافة الى الاعلانات الرخيصة والمجانية وضريبة الثقافة وغيرها. وهي تضحي ايضا بحجم انتشارها ومردودها الاعلاني عندما تفرد الصفحات للوزراء والمسؤولين, خبرا وصورة, ما يستحق النشر, وما لا يستحق لانه لا يحمل مضمونا ولا جديدا. ان حجم ما تغطيه الصحف اليومية من اخبار الانشطة الحكومية اكثر من حجم صحيفة الشرق الاوسط والحياة والاهرام.
وتتحمل الصحافة النقد من الجمهور, واحيانا من المسؤولين الحاليين والمتقاعدين, حول فشل الصحافة في توسيع انتشارها وزيادة حجم اعلاناتها, وبعضهم (يحزن) على اوضاعنا المالية ورواتب الصحافيين. ونسكت عن القول, بان غياب (الحرية والاستقلال) ومقاومة (المهنية) بطرق رسمية علنية وغير علنية بما في ذلك الاتهامات والرضا والغضب هو الذي يقف وراء ما نواجه من عقبات وتحديات في الانتشار والاعلان, وهذه مناسبة لتكرار القول بان الاعلان يستند الى الانتشار الذي ينطلق من مبادئ المنافسة ومفاهيم الربح والاستثمار. لكن تطبيق هذه المعادلة اصبح امرا متعسراً خاصة عند الصحف الجديدة المستقلة عندما ارادت ان تنافس بقوة المهنية ونشر المعلومات والحقائق.
************
لقد طرحت (المدونة) مجمل العلاقة بين الحكومة ووسائل الاعلام بصياغة خطاب يوحي بان العلاقة كلها مع الصحافة غير صحيحة بما في ذلك الصحف اليومية. وفيما كان المقصود بالمدونة بضعة صحافيين الا ان الانطباع كان سلبيا عند الرأي العام عن الصحافة والصحافيين وبما طال الجميع.
لقد عممت الحكومة الاحكام المطلقة والاجراءات وهو ما يستدعي التوضيح, المبادرة باقامة حوار مع المؤسسات الصحفية لفتح ملف العلاقة كاملا. نحن مع اصلاح الاخطاء والتجاوزات في العلاقة, لكن لنتفق بان الصحافيين ليسوا المسؤولين عنها بل هم ضحايا.
***
لا يمكن للحكومة ان تعيش في جزيرة منفصلة عن الصحافة وكذلك الاخيرة. لان اهداف الاعلام هي سياسية بامتياز. تماما كما ان السياسة اعلام. الصحافة جزء من النظام الكلي للدولة والمجتمع. وهي مثل الحكومة تريد ايضا علاقة دستورية وقانونية تحافظ على قطاعها ومصالح الصحافيين وحرية واستقلال عملهم من دون خوف او ابتزاز او استرضاء.0
taher.odwan@alarabalyawm.net
العرب اليوم