عطفا على مقالي السابق والذي حاولت من خلاله أن أوضح فكرة الفرق بين التدين والأيديولوجيات لا بد من التذكير مرة أخرى بأن التعمق بفكرة الأديان بشكل عام يجعلك تدرك مدى روحانيتها وسموها فوق أي مظهر تعصبي يحاول حصرها ضمن أطر ضيقة لخدمة مصالح معينة لا تنتمي لفلسفة الأديان التي هي في العموم تتمحور حول الإيمان بالإله والدعوة للخير ونبذ الشر والتصديق بالعقاب والثواب وتتجسد في جملة من الطقوس والعبادات. ولا بد من التذكير أيضا بأن الأيديولوجيا هي جملة من الأفكار والمعتقدات التي طورتها جماعة ما ووضعتها كحقائق وقواعد تتطلب التصديق بها للانتماء لهذه الجماعة مع ملاحظة أن الأيديولوجيات الدينية تغلفت بغلاف مقدس استمدته من النصوص الدينية.
سأحاول من خلال هذا المقال أن أضع معيارا يساعد كل منا على تحديد مدى انتمائه وإيمانه بفكرة معينة وبالتالي مساعدته على اكتشاف الفكر الأيديولوجي الذي ينتمي إليه، حيث أن المعيار في كل حالة هو مجموعة الأفكار والمعتقدات التي تعتنقها مجموعة معينة وتميز أيديولوجيتها عن الأيديولوجيات الأخرى.
تعتبر الأيديولوجيات السياسية من الأمثلة الواضحة التي سنقيس من خلالها انتماءنا لفكرة وتخلينا عن فكرة أخرى، فمثلا إذا كنت تؤمن بالملكية المشتركة لوسائل الإنتاج في الاقتصاد والتي تؤدي لإنهاء الطبقية الاجتماعية فأنت تعتنق الشيوعية، أما إذا كنت تؤمن بالملكية الخاصة لوسائل الإنتاج وتراكم رأس المال والعمل المأجور والأسواق التنافسية فأنت من منظري الرأسمالية.
أما بالنسبة للأيديولوجيات الدينية فلا يمكن الفصل بسهولة بينها وبين الأديان، لذلك عانت الأديان عبر تاريخ البشرية من الاستغلال الأيديولوجي الذي وظفها بشكل سلبي ولكني في هذا المقال سأوضح فقط اثنتين من أهم الأيديولوجيات التي انبثقت عن الإسلام السياسي في المنطقة كمثالين لموضوع يطول شرحه وما هذا المقال إلا محاولة متواضعة للتذكير بفكرة وضع معيار معين للقياس.
يعتقد الكثيرون أن جميع التنظيمات الإسلامية تتبنى ذات الأيديولوجيا لكن الحقيقة غير ذلك فكل تنظيم منها بنى أيديولوجيته اعتمادا على معتقدات وأفكار استمدها من تفسيرات محددة للنصوص الدينية تخدم أهدافه وتوجهاته بطريقة بررها كل تنظيم بمسوغات فقهية لإكسابها شرعية وقدسية. تنظيم داعش مثلا يعتمد على تفسير متطرف للإسلام السني مستمد من الحركة الوهابية ويصنف المنتمين له بأنهم هم المؤمنين الحقيقيين بينما يقف بقية العالم في الجانب المقابل الذي يمثل الكفار الذين يشكلون خطرا على الإسلام وبذلك لا بد من قتلهم سواءا كانوا مسلمين أو غير مسلمين حيث يعتبر هذا القتل للغير هو الشكل الممثل لمفهوم الجهاد والذي يندرج تحته أيضا مفهوم الشهادة التي ستكون مصير من يُقتل من عناصر هذا التنظيم خلال تنفيذ هذه العمليات التي صنفت جهادية. يقدم هذا التنظيم نفسه كمخلص للمسلمين، هذا المخلص الذي سيعيد مجد الأمة عن طريق العودة بالزمن واستحضار مفهوم الخلافة كبديل للدولة المدنية وتقديم هذا البديل على شكل المدينة الفاضلة العادلة أو بمعنى آخر اليوتوبيا الأسطورية.
على الرغم من أن تنظيم داعش انشق عن تنظيم القاعدة إلا أن هناك فروقا مهمة بين أيديولوجية كل منهما، فتنظيم القاعدة مثلا اهتم في الجوانب السياسية، وركز على قتال الأميركيين داخل العراق وخارجه دون التفريق بين أهدف مدنية أو عسكرية وقدم العمليات الإنتحارية كشكل من أشكال الاستشهاد وابتعد عن الإطار الطائفي للصراع بينما أطر تنظيم داعش خطابه بإطار طائفي مستمد من الهوية فوجه حربه نحو إيران والشيعة تحت غطاء وتبريرات فقهية تعطي الشرعية والمصداقية لأيديولوجيته.
بناءا على ما سبق يمكن أن يقيس كل منا مدى انتمائه لأي مجموعة مهما كانت قاعدتها الأيديولوجية سواءا كانت سياسية أو اجتماعية أو دينية بعد تحديد مجموعة أفكار ومعتقدات هذه المجموعات، ولكن ما دفعني لكتابة هذا المقال هو جملة من المظاهر التي أصبحت تجد قبولا اجتماعيا شكل لدي السؤال الصادم الذي لا بد من أن يواجه كل منا نفسه به وهو: هل أنا داعشي؟