كنا ثلة من الصحفيين نتجول في القدس القديمة، ومعنا دليل يعمل في بيت الشرق في القدس، وبيت الشرق لمن لا يعرف كان مؤسسة سياسية واجتماعية على رأسها الراحل فيصل الحسيني، حتى أغلقته إسرائيل كيدا وزورا وبهتانا، كان منارة وسط المدينة.
لم نكن فرادى، كنا بمعية شخصيات سياسية من الأردن، والوفد التقى ياسر عرفات، ومسؤولين فلسطينيين، والقصة العام 1999، وعلى هامش الوقت المتاح، زرنا البلدة القديمة، وصلينا في المسجد الأقصى، وزرنا كنيسة القيامة.
كانت أسواق القدس القديمة، حكاية بحد ذاتها، والحجارة القديمة، تحكي لك قصتها، وحكاية من قصها من الجبال، وصاغ الروح فيها، وغرسها شاهدة عيان على من مروا في طرقات القدس القديمة، وحجارة البلدة القديمة واسوار المدينة، عصية على هؤلاء.
يومها وفي زقاق ضيق، وكان مجموعنا يزيد على العشرين شخصا، احدثنا جلبة وصوتا بسبب حركتنا، وضيق المكان، فخرجت سيدة عجوز من بيتها، وفتحت الباب لتسأل عمن نكون، وقد كان واضحا اننا جئنا من مكان آخر، بسبب طبيعة لباس الوفد، وحركته، فأخبرناها ان الوفد اردني، وجاء الى القدس والضفة الغربية وغزة، في زيارة رسمية!.
أقسمت يومها على الوفد ان يدخلوا الى بيتها للحظات، لشرب القهوة من دلتها، استجاب الوفد، نواب واعيان وصحفيون، دخلنا الى البيت، وكان مكونا من غرفتين، والبيت حجري قديم جدا، عمره ربما مئات السنين، ودارت السيدة بقهوتها على أعضاء الوفد واحدا واحدا، مرحبة بهم، مبتهجة ان وفدا من الأردن هنا في القدس، وفي بيتها.
سألناها عن حياتها، فقالت ان لها ابنا وحيدا، وانها تعيش في هذه الغرفة التي نقف فيها، فيما الغرفة الثانية المغلق بابها، بها ضريح لولي صالح، من اجداد زوجها، والضريح مقام منذ مئات السنين، والعائلة تتوارث البيت، جيلا بعد جيل، وما يزال الضريح في غرفة مغلقة، والعائلة تعيش في غرفة واحدة، ولا تأبه بكل هذا الضيق، فهي في القدس، وأي سعة في الحياة يا هذا أن تعيش في القدس، ولو فوق متر واحد فيها؟!..
فاضت بهمومها، وقالت ان الجنود الإسرائيليين، والمتطرفين يضايقونها يوميا، ويرمون الحجارة عليها يوميا، ويرسلون من يخيفها ليلا، عبر طرق الباب بشكل مفزع، ويضربونها أحيانا، ويمنعونها من الخروج في حالات ثانية، فوق الملاحقات البلدية والضرائب.
ابنها ليس معها، مسجون عند الاحتلال، وهي بعمرها هذا تأبى ان تترك الغرفة في البلدة القديمة، وكانت المفاجأة اذ احضرت عقدا باللغة العربية قدمه لها محام إسرائيلي، لبيع الغرفة، وغرفة الضريح، أي كل البيت مقابل خمسة عشر مليون دولار، على ان تخرج من البيت، فرفضت توقيع العقد، ورفضت ان تناقشه ابدا مع وكيل الإسرائيليين.
اذ فاضت عيونها بالدمع، صارت تحكي بشكل عاطفي، عن شعورها بالعجز والضعف، وزادت على محمل اليقين قائلة انه لا يمكن ان تبيع البيت بمال الدنيا، فقد توارثته العائلة جيلا بعد جيلا، وبيعه سوف يؤدي الى كارثة، كون المستوطنين سيصير لهم نقطة ارتكاز في ذلك الزقاق والسوق، ثم اضافت قائلة يريدون ان ابيع ضريح الولي الصالح، او جد اولادي، في زمن يباع فيه الاحياء جهارا نهارا، فكيف بمن رحلوا من ازمان سابقة؟!.
ارتسمت علامات التأثر على وجوهنا، وغادرناها شاكرين ممتنين لضيافتها، وطوال الطريق في القدس العتيقة، كنت اسأل نفسي عمن هو مثلها، عمن يدرك ان الحياة وقفة عز فقط، وان الضعف لا يبرر السقوط والتنازل، فإذا كانت امرأة وحيدة بعمرها هذا فوق ضعفها ترفض بيع بيت من غرفتين، احداهما فيها ضريح ميت، فما بال غيرها يبيع في هذه الحياة بأرخص الاثمان، ودون ادنى رفض او صد او ممانعة إنسانية حماية لحق طبيعي ؟!.
الاحتلالات لا تنتصر على الشعوب، وكل احتلال يزول نهاية المطاف، والشعوب التي تعرضت لحروب قديمة، ولضربات نووية، واحتلالات، عادت ونهضت، وما من شيء يهزم امة، سوى الخيانة، خيانة الفرد، او المجموع، فالخيانة اخطر من الحرب والاحتلال، لأن الطعن يأتي من الظهر، ومن المأمن على ما هو مفترض، فوق أنماط الخيانة وتلويناتها.
يبقى الخير في هذه الامة، ومقابل كل مفرط وخائن، العشرات ممن لا يبيعون، ولا يتاجرون بالقضايا الكبرى، ولولا هذا النور في هذه العتمة، لساد اليأس وبات في أعلى درجاته.
الغد