هل قرأتم للدكتور علي الوردي؟
م. أشرف غسان مقطش
23-01-2020 11:57 AM
خلال سنوات دراستي الجامعية في العراق، أشارت علي إحدى زميلاتي بقراءة كتاب (خوارق اللاشعور أو أسرار الشخصية الناجحة)، ولما رأيت العنوان، قلت لزميلتي: لا يوجد عندي ميول لقراءة مثل هذه الكتب؛ فسألتني: لماذا؟ أجبتها: لأنني لا أؤمن بالخوارق! إلا أن زميلتي أصرت علي بقراءة الكتاب إصرارا شديدا؛ فرضخت لإلحاحها وأخذت الكتاب.
أذكر أنني بدأت بقراءة الكتاب بعد استيقاظي من نومة ما بعد الغذاء، ثم هممت بقلب جلدة الكتاب وانطلقت في مطاردة سطوره سطرا وراء سطر حتى السطر الأخير منه الذي أمسكت به مع آذان الفجر على ما أذكر.
في قعدة واحدة، برفقة إبريق من الشاي، أنهيت الكتاب الذي شدني حتى نسيت تناول طعام العشاء، كانت قوة جذبه لا تقاوم، كان الكتاب يضحكني تارة، يبكيني طورا، يسعدني حينا، يحزنني حينا آخر، يشحذ ذهني في التفكير في مسائل كنت أعتبرها مسلمة بصحتها لا ذرة غبار على صوابها.
لم أشعر بالملل للحظة، كانت المتعة تلتف حولي كالإعصار في شدتها وإنا أتنقل بين مواضيع الكتاب من الفلسفة إلى علم النفس إلى علم الإجتماع إلى التاريخ إلى العلوم الطبيعية مرورا بعبقريات العباقرة واتعطاف بجنون المجانين، حتى وجدت حياتي تشهد إنقلابا فيما أحمله من أفكار وموروثات دينية ومفاهيم اجتماعية ومبادئ شخصية.
بدون مبالغة، الكتاب غير حياتي مائة وثمانين درجة، كنت متعصبا للدين المسيحي كوني ولدت مسيحيا فجعلني الكتاب أنبذ تعصبي الأعمى وأندم على كل لحظة ضيعتها سدى في مجادلة كل من يدين بدين آخر كان قد ناقشني في مسألة صوابية دينه كان أم ديني الذي ولدت عليه.
والكتاب فتق ذهني على عقلي الباطن وشرح لي أسرار بعض تصرفاتي التي كان يعتبرها البعض خروجا عن الطور الطبيعي لشخصيتي.
والكتاب ألهمني في كتابة عشرات المقالات فيما بعد، وجعلني أنظر إلى مستقبل العلم نظرة أنه "من الممكن أن يكون" لا نظرة "من المستحيل أن يكون"، ولهذا تراني أقول لك: من الممكن أن ننتقل عبر الزمن يوما ما، ومن الممكن أن تكون هناك "حياة" في مكان آخر من هذا الكون غير هذه "الحياة" على هذا الكوكب الأزرق، ومن الممكن اكتشاف دواء فعال في أية لحظة لمعالجة السرطان وكل مرض آخر استعصى علاجه على العلماء والأطباء حتى الآن مثل مرض تحلل الشبكية الصباغي الذي أصابني منذ أن رأيت النور.
لقد جعلني الكتاب أحذف "المستحيل" من قاموس حياتي، وجعلني أمرن نفسي على فن الإصغاء والإستماع للطرف الآخر في أي نقاش حول أي موضوع، لكن ما زالت هناك أمامي بعض العقبات في السيطرة على انفعالاتي أحاول جاهدا معالجتها أولا بأول.
وهذا الكتاب كان أول لقاء بيني وبين الوردي: د. علي حسين محسن الوردي مؤلف الكتاب، ومؤلف كتب أخرى مثل: أسطورة الأدب الرفيع، ومهزلة العقل البشري، والأحلام بين العلم والعقيدة، وغيرها من كتب خلبت لبي وسحرت روحي.
بساطة كلمات الوردي وسلاسة تعابيره من دون أي إبهام في المعنى ومن دون أي ستار مخملي على المدلول تأخذ بيدك إلى عمق الحياة لتكتشف بنفسك رويدا رويدا أنك قريب جدا من ماهية نفسك، ذاتك، عقلك، ضميرك، وتتيقن بنفسك أيضا أن "الحقيقة" ما زالت بعيدة عن نفسك، ذاتك، عقلك، ضميرك
وهنا تكمن المفارقة في نظرية المعرفة عند الدكتور علي الوردي؛ فهو يعتقد أنه يعرف لكنه لا يجزم أنه يعرف، لذلك تجده يكرر لازمته الموسيفية في كتبه بقوله: "ولعلني لا أغالي"، وقد أدمنت هذه اللازمة حتى لا يكاد مقال من مقالاتي يخلو منها أو من شبيهاتها.
نمت قليلا، استيقطت، وركضت ركضا نحو الجامعة، وجهتي كانت نحو زميلتي التي أعارتني الكتاب، ولما التقيتها شكرتها شكرانا جزيلا على إصرارها الشديد على قراءة الكتاب. وحدثتها عن مفعول الكتاب السحري في نفسي، بينما هي تبتسم، ولما أعدت الكتاب إليها، قالت لي: ما دام الكتاب أعجبك إلى هذا الحد فأنا أهديه لك. ورغم تمنعي عن تقبل الهدية الثمينة إلا أن زميلتي أصرت مرة أخرى إصرارا شديدا على إهداء الكتاب لي. وما زال الكتاب عندي في مكتبتي مرجعا لي في الفكر التنويري.
إذا تحدثت عن (18) عاما عمرا لهذه الحادثة فالكتاب قراته في هذه المدة نحو خمس مرات. بين فترة وفترة ولسبب ما أو آخر تجدنني أغوص في بحر أفكاره ساعات وساعات. وقد يحدث زلزال لا أعيره أدنى إهتمام وأنا منغمس حتى رأسي بين دفتي الكتاب.
ومنذ تلك اللحظة وأنا أطارد كتب الوردي. أشتريها بأي ثمن كان. أقرأها في أي ظرف من الظروف حتى اكتملت عندي كل كتبه باستثناء كتاب واحد ما زالت نفسي فيه؛ كتاب "هكذا قتلوا قرة العين".
وإذا سألتني عزيزي القارئ عن المفكر المفضل لدي من بين جميع المفكرين على مستوى العالم حتى اللحظة هذه، أجيبك على منوال ما كان يجيب الوردي على مثل هذه الأسئلة: أكاد أجزم أنه الوردي، لهذا تجدني أنصحك بقراءة كتبه جميعها بلا استثناء، وادع لوالدي الطيب بالشفاء التام.